إذا قاد المصاب بالصرع سيارته فقتل شخصاً حال صرعه، فماذا يلزمه؟

05-03-2024

السؤال 495638

إنسان مريض بمرض الصرع ـ عافاكم الله تعالى ـ بحيث تصيبه غفوة، ويغيب عن الوعي لبضعة لحظات، وهو يأخذ الدواء على ذلك، وفي يوم من الأيام كان يقود السيارة فغاب عن الوعي، ودهس شخصا فقتله رحمه الله رحمة واسعة، قد وقع منه القتل حال فقده لعقله بسبب نوبة الصرع الذي اضطربت معه وظائفه العقلية. في هذه الحالة هل عليه دية وكفارة، أو يدخل في عموم قوله صلى الله عليه و سلم: (رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يعقل...) الحديث، فمن فقد التمييز والتصور الصحيحين، انتفت عنه الأهلية. وهل تنطبق عليه القاعدة المعروفة: " ما لا يمكن التحرز منه فلا ضمان فيه"؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

المصروع والممسوس ونحوهما إذا قتلا أو أتلفا حال ذهاب العقل وعدم الإدراك: فلا إثم عليهما؛  لقول لنبي صلى الله عليه وسلم: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ رواه أبو داود (4403)، والترمذي (1423)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041).

ولكن من تصيبه نوبات الصرع في أوقات غير معلومة، لا يجوز له قيادة السيارة، فإن فعل وقتل شخصا كان آثما؛ لأنه معتد على غيره، مفرط فيما يجب عليه في نفسه، ومراعاة حق غيره.

ثانيا:

المصروع إن قتل شخصا حال صرعه وغياب وعيه: فعليه الكفارة، وعلى عاقلته الدية، ولو كان معذورا غير آثم.

وذلك أن إيجاب الدية والكفارة هو من خطاب الوضع، لا من خطاب التكليف، ولهذا أوجب الفقهاء ما ذكرنا على المجنون إذا قَتل.

قال النفراوي رحمه الله: "وتؤخذ كفارة القتل من مال الصبي والمجنون لأنها من ‌باب ‌خطاب ‌الوضع ‌كالزكاة، ولو أعسرا؛ فالظاهر انتظار البلوغ والإفاقة حتى يصوما" انتهى من "الفواكه الدواني" (2/199).

وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (8/513) : " وإذا قتل الصبي والمجنون، وجبت الكفارة في أموالهما، وكذلك الكافر، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا كفارة على واحد منهم؛ لأنها عبادة محضة، تجب بالشرع، فلا تجب على الصبي والمجنون والكافر، كالصلاة والصيام.

ولنا، أنه حق مالي، يتعلق بالقتل، فتعلقت بهم، كالدية.

وتفارق الصوم والصلاة؛ لأنهما عبادتان بدنيتان، وهذه مالية، أشبهت نفقات الأقارب. وأما كفارة اليمين، فلا تجب على الصبي والمجنون؛ لأنها تتعلق بالقول، ولا قول لهما، وهذه تتعلق بالفعل، وفعلهما متحقق قد أوجب الضمان عليهما، وأما الكافر فتجب عليه، وتكون عقوبة عليه، كالحدود" انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (‌رفع ‌القلم عن الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ)، إنما يقتضي رفع المأثم لا رفع الضمان باتفاق المسلمين، فلو أتلفوا نفسا أو مالا: ضمنوه" انتهى من "منهاج السنة النبوية" (6/49).

وجاء في "الموسوعة الفقهية" (35/99): "يرى المالكية والشافعية والحنابلة عدم اشتراط البلوغ والعقل في وجوب الكفارة على القاتل، فتجب على الصبي والمجنون عندهم.

واحتجوا بأن الكفارة حق مالي فتجب في مالهما، فيعتق الولي عنهما من مالهما، ولا يصوم بحال، وإن صام الصبي المميز أجزأه.

ولأن الكفارة من خطاب الوضع، أي جعل الشيء سببا، فالشارع جعل القتل سببا لتحرير الرقبة عند القدرة، والصوم شهرين متتابعين عند العجز، ولم يجعل ذلك على الفور، فالصبي أهل للصوم باعتبار المستقبل.

وقالوا: إن كفارة اليمين لم تجب على الصبي والمجنون لأن سببها قول والقول غير معتبر منهما، بخلاف كفارة القتل فإن سببها فعل وهو معتبر من الجميع.

ويرى الحنفية أن البلوغ والعقل شرطان لوجوب الكفارة في القتل، فلا كفارة على القاتل الصبي أو المجنون؛ لرفع القلم عنهما ولأن القتل معدوم منهما حقيقة" انتهى.

والكفارة عتق رقبة من مال القاتل، فإن لم يجد مالاً، أو عدمت الرقبة، فصيام شهرين متتابعين.

قال الله تعالى:  وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء/92.

وأما الدية: فهي على العاقلة؛ لأن عمد المجنون له حكم الخطأ.

قال ابن قدامة رحمه الله: "لا حد على الصبي والمجنون ‌وإن ‌باشرا ‌القتل وأخذا المال؛ لأنهما ليسا من أهل الحدود، وعليهما ضمان ما أخذ من المال في أموالهما، ودية قتيلهما على عاقلتهما" انتهى من "المغني" (12/486).

وفي "الموسوعة الفقهية" (32/330): "جمهور الفقهاء على أن عمد الصبي والمجنون والمعتوه: كالخطأ؛ في وجوب الدية على العاقلة، ولا قصاص فيه؛ لأنهم ليسوا من أهل القصد الصحيح" انتهى.

والعاقلة هم قرابة الإنسان الذكور من جهة أبيه، توزع عليهم حسب قربهم وملاءتهم المالية. وتكون الدية لورثة المقتول، فإن عفوا عن الدية سقطت.

جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (29/221-222)" اتفق الفقهاء على أن دية الخطأ تجب على العاقلة...،وعاقلة الإنسان عصبته، وهم الأقرباء من جهة الأب كالأعمام وبنيهم، والإخوة وبنيهم، وتقسم الدية على الأقرب فالأقرب، فتقسم على الإخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم، ثم أعمام الأب وبنيهم، ثم أعمام الجد وبنيهم، وذلك لأن العاقلة هم العصبة " انتهى من "الموسوعة الفقهية الكويتية" (29/221-222).

ثالثا:

هذا المصروع تلزمه التوبة إلى الله تعالى من تعديه بقيادة السيارة مع كونه يصاب بالصرع، وتلزمه الكفارة وهي صيام شهرين متتابعين، ولا يبطل صومه لو فقد الوعي أثناء الصوم، إلا إن كان ذلك من الفجر إلى غروب الشمس، فلا يصح صومه، لكن لا يبطل التتابع؛ لأنه معذرور، وينظر: جواب السؤال رقم: (9245).

وكذلك: لا تسقط عن مريض الصرع كفارة الصيام إن لم يجد الرقبة؛ لأنه مخاطب حال حضور عقله، بخلاف فاقد العقل فقداً مستمراً.

قال تقي الدين السبكي رحمه الله: "الجنون قد يكون مطبقا، وقد يكون منقطعا، والحديث -رفع القلم عن ثلاثة- قد شمل النوعين، فإن المنقطع يثبت حكمه كلما طرأ، ويزول كلما زال، وذلك مقتضى قوله: (حتى يفيق) ، ‌فإنه ‌اقتضى ‌تعليق ‌رفع ‌القلم ‌بالجنون، وزوال رفعه بالإفاقة، ولكن ذلك بواسطة ما اقتضاه الحديث من كون الجنون علة الرفع، والإفاقة علة التكليف، والمعلول يتكرر علته" انتهى من "إبراز الحكم من حديث رفع القلم" (ص96).

وتلزم عاقلته الدية، كما سبق؛ وذلك أن حوادث السير لها حكم قتل الخطأ، لا العمد، حتى لو حصلت من الصحيح المفرط بعدم النوم مثلا.

والله أعلم
 

الجنايات
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب