هل فعل ذنب من الصغائر مع أشخاص آخرين يعتبر مجاهره ؟
الحمد لله.
عن أَبي هُرَيْرَةَ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) رواه البخاري (6069) ومسلم (2990).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله: ( كل أمتي معافى ) ... من العافية، وهو إما بمعنى: عفا الله عنه، وإما سلّمه الله، وسلّم منه " انتهى. "فتح الباري" (10 / 486).
والمجاهر هو الذي يجاهر بمعصيته ويظهرها.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ) هم الذين جاهروا بمعاصيهم، وأظهروها، وكشفوا ما ستر الله عليهم منها، فيتحدثون به " انتهى. "النهاية في غريب الحديث" (1 / 321).
والحديث مطلق لم يقيد المجاهرة بالمعصية التي تكون من الكبائر، فيعمل به على اطلاقه، فينهى عن المجاهرة بالصغائر كما ينهى عن المجاهرة بالكبائر.
والمجاهرة كما تكون بالقول والاخبار، تكون بتعمد فعل المعصية أمام الناس.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" معافى: يعني قد عافاهم الله عز وجل.
إلا المجاهرين: والمجاهرون هم الذين يجاهرون بمعصية الله عز وجل، وهم ينقسمون إلى قسمين:
الأول: أن يعمل المعصية وهو مجاهر بها، فيعملها أمام الناس، وهم ينظرون إليه، هذا لا شك أنه ليس بعافية؛ لأنه جر على نفسه الويل، وجره على غيره أيضا.
أما جره على نفسه: فلأنه ظلم نفسه حيث عصى الله ورسوله، وكل إنسان يعصي الله ورسوله؛ فإنه ظالم لنفسه...
وأما جره على غيره: فلأن الناس إذا رأوه قد عمل المعصية؛ هانت في نفوسهم، وفعلوا مثله...
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً؛ فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ).
فهذا نوع من المجاهرة، ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه واضح.
لكنه ذكر أمرا آخر قد يخفى على بعض الناس، فقال: ومن المجاهرة أن يعمل الإنسان العمل السيئ في الليل، فيستره الله عليه، وكذلك في بيته، فيستره الله عليه ولا يُطلع عليه أحداً، ولو تاب فيما بينه وبين ربه؛ لكان خيراً له، ولكنه إذا قام في الصباح واختلط بالناس، قال: عملت البارحة كذا، وعملت كذا، وعملت كذا، فهذا ليس معافى، هذا والعياذ بالله قد ستر الله عليه فأصبح يفضح نفسه... فهذا ليس من المعافين؛ لأنه من المجاهرين " انتهى. "شرح رياض الصالحين" (3 / 16 – 17).
وفعل الشخص للمعصية مع غيره من القرناء والجلساء، قد تكون من المجاهرة بلا شك إن كان صاحبها يتعالن بها، ولا يبالي، ولا يستتر بستر الله؛ حتى وإن كانت المعصية مما لا يحصل إلا بالاشتراك كالغيبة والنميمة.
فالقاعدة الشرعية: " أن الأمور بمقاصدها ".
لقول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) رواه البخاري (1) ومسلم (1907).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والأفعال، فإن الألفاظ إذا اختلفت عباراتها أو مواضعها بالتقدم والتأخر والمعنى واحد؛ كان حكمها واحدا، ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفا، وكذلك الأعمال، ومن تأمل الشريعة حق التأمل علم صحة هذا بالاضطرار " انتهى. "اعلام الموقعين" (4 / 552).
فإن لم يقصد فاعلها التهتُّك أو الاستخفاف بالمعصية أمام الناس، والتوقُّح بإظهارها، وإنما وقعت من المسلم زلة بين رفقته؛ فالظاهر أنه لا يعد هذا من المجاهرة التي يحرم صاحبها من العفو؛ لعدم القصد إلى ذلك.
والله أعلم.