سؤالي هو مثلا لو أني أدركت ليلة القدر وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة فهل يتضاعف الأجر كما لو أني صليت عليه ألف مرة كل يوم مدة ألف شهر أو أكثر؟
سبب سؤالي هو أني قد سمعت من يوصي بالصلاة وقراءة القرآن في العشر الأواخر من رمضان.
الحمد لله.
ليلة القدر ليلة مباركة .
قال الله تعالى: (حم ، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) الدخان/1- 3.
ومن بركتها أن الله تعالى جعلها خيرا من ألف شهر.
قال الله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) القدر /1–3.
روى عبد الرزاق في “التفسير” (3 / 445): عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }، قَالَ: ( خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ).
قال الواحدي رحمه الله تعالى:
” قال مجاهد: قيامها، والعمل فيها: خير من صيام ألف شهر وقيامه، ليس فيه ليلة القدر.
وهذا قول مقاتل، وسفيان، وقتادة، واختاره الفراء، والزجاج ” انتهى. “البسيط” (24 / 192).
وقال البغوي رحمه الله تعالى:
” قال المفسرون: “ليلة القدر خير من ألف شهر”، معناه: عملٌ صالحٌ في ليلة القدر، خيرٌ من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر ” انتهى من “معالم التنزيل” (8 / 491).
وهو اختيار الإمام الطبري، حيث قال رحمه الله تعالى:
” وأشبه الأقوال في ذلك، بظاهر التنزيل؛ قول من قال: عمل في ليلة القدر، خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر. انتهى “تفسير الطبري” (24 / 534).
وصوّبه ابن كثير، فقال رحمه الله تعالى:
” وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: ( ليلة القدر خير من ألف شهر -ليس في تلك الشهور ليلة القدر- ). وهكذا قال قتادة بن دعامة، والشافعي، وغير واحد.
وقال عمرو بن قيس الملائي: عمل فيها خير من عمل ألف شهر.
وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر -وليس فيها ليلة القدر- هو اختيار ابن جرير. وهو الصواب لا ما عداه ” انتهى. “تفسير ابن كثير” (7 / 609).
والعمل الصالح أنواع وشعب، ومن هدي الشريعة أنه يشرع في كل وقت فاضل عمل يناسبه، يكون هو أولى من غيره من الأعمال، وسبيل القطع والجزم بالعمل الذي يناسب ليلة القدر ويدرك به بركتها وفضلها إنما هو الوحي، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في مسألة شبيهة لهذه:
” والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمور، ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم ” انتهى. “زاد المعاد” (1 / 37).
وقد بيّنت نصوص السنة أن هذه الليلة هي ليلة من ليالي العشر الأواخر.
روى البخاري (2017)، ومسلم (1169): عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ )، وفي رواية البخاري: ( فِي الْوِتْرِ، مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ). وبوّب عليه البخاري بقوله: ” بَابُ تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ “.
وبينت السنة أن فضل وبركة هذه الليلة يدرك بإحياء هذه الليالي العشر، روى البخاري (2024)، ومسلم (1174): عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قالَتْ: ” كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ “.
وبينت السنّة أيضا أن احياء هذه الليالي يكون بطول القيام بالصلاة والدعاء، وهذا الثابت من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما رواه البخاري (2014)، ومسلم (760): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: ( مَنْ قامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: ” صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي السَّادِسَةِ، وَقَامَ بِنَا فِي الْخَامِسَةِ حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ فَقَالَ: (إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ)، ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثَلَاثٌ مِنَ الشَّهْرِ، وَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ، وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى تَخَوَّفْنَا الْفَلَاحَ. قُلْتُ لَهُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ” روى أبوداود (1375) والنسائي (1605)، و الترمذي (806)، وابن ماجه (1327)، وقال الترمذي: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ”.
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: ( قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ). رواه الترمذي (3513)، وقال: ” هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ” انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” ويحصل النصيب منها بحديث أبي ذر، فإنه يقتضي أن قيامها يحصل بالقيام مع الإمام ” انتهى. “شرح عمدة الفقه” (3 / 572).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
” وأما العمل في ليلة القدر؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ( مَنْ قامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ).
وقيامها إنّما هو إحياؤها بالتهجّد فيها والصّلاة، وقد أمر عائشة بالدّعاء فيها أيضا.
قال سفيان الثوريّ: الدّعاء في تلك الليلة أحبّ إليّ من الصّلاة. قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدّعاء والمسألة لعله يوافق. انتهى.
ومراده أنّ كثرة الدّعاء أفضل من الصّلاة التي لا يكثر فيها الدّعاء، وإن قرأ ودعا كان حسنا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجّد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتّلة، لا يمرّ بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلاّ تعوّذ، فيجمع بين الصّلاة والقراءة والدّعاء والتفكّر. وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها، والله أعلم ” انتهى. “لطائف المعارف” (ص359).
وهذا هو سبيل المؤمنين على مر العصور.
فإن عجز المسلم عن هذا الهدي، قام بما يتيسر له من أعمال الخير من دعاء ونحوه.
وأما ما عدا ذلك من الأعمال الصالحة، كالصدقات ونحوها: هل يدخلها التفضيل المذكور، فتكون الصدقة فيها، خيرا من الصدقة فيما سواها؟
هذا موضع مسكوت عنه، وليس في السنة القولية، ولا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا السلف الصالح ما يدل على ذلك، والفضائل لا تدرك بقياس؛ فيفوض أمر العطاء فيها إلى رب العالمين، وأكرم الأكرمين.
الخلاصة:
ليلة القدر هي خير من ألف شهر، وهي ليلة من الليالي العشر الأواخر من رمضان، وقد بيّنت السنة ما على المسلم أن يحرص عليه في هذه الليلة لادراك بركتها، وهو احياء هذه الليلة بطول القيام والدعاء، وتلاوة القرآن.
والله أعلم.