والدتي وهبتني سطح دارها منذ ١٤ سنة وأنا عمرته دار لي ولم يعارض أحد من الإخوة بل على العكس والآن عادت بهبتها هل يجوز لي أن ادعى عليها في القضاء
الحمد لله.
أولا:
يلزم الأم-كالأب- العدل في الهبة بين أولادها، ذكورا وإناثا؛ لما روى البخاري (2586) ومسلم (1623) عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا فَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ قَالَ لَا قَالَ: فَارْجِعْهُ. ومعنى (نحلت ابني غلاما) أي أعطيته غلاما.
ورواه البخاري (2587) عَنْ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ : أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ : لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ : لَا . قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ قَالَ : فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ".
وفي رواية للبخاري أيضا (2650): (لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ).
فإن كان التفضيل، مع رضى بقية الأولاد، والحال أنهم بالغون راشدون: جاز ذلك.
فإن لم يتحقق رضاهم، وجب على الأم أن تعطي البقية مثل ما أعطت لابنها، وتعطى الأنثى نصف ما أعطت الذكر، أو أن تسترد هبتها، إن أمكن ذلك، بحسب ما يأتي من التفصيل.
قال ابن قدامة رحمه الله: " فإن خص بعضهم بعطيته , أو فاضل بينهم فيها: أثم , ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما رد ما فَضَّل به البعض , وإما إتمام نصيب الآخر. قال طاوس: لا يجوز ذلك , ولا رغيف محترق. وبه قال ابن المبارك وروي معناه عن مجاهد , وعروة " انتهى من "المغني" (5/ 387).
ثانيا:
يحرم الرجوع في الهبة إلا فيما استثني من ذلك، كرجوع الأب والأم فيما وهبا لولدهما؛ لما روى أبو داود (3539) والترمذي (2132) والنسائي (3690) وابن ماجه (2377) عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود.
ويشترط لذلك شروط منها:
عدم زيادة الهبة زيادة متصلة بالعين الموهوبة.
قال ابن قدامة رحمه الله: " وللرجوع في هبة الولد شروط أربعة:
أحدها: أن تكون باقية في ملك الابن، فإن خرجت عن ملكه، ببيع أو هبة أو وقف أو إرث أو غير ذلك، لم يكن له الرجوع فيها؛ لأنه إبطال لملك غير الولد ...
الثاني: أن تكون العين باقية في تصرف الولد، بحيث يملك التصرف في رقبتها، فإن استولد الأمة، لم يملك الأب الرجوع فيها ...
الثالث: أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد، فإن تعلقت بها رغبة لغيره، مثل أن يهب ولده شيئا فيرغب الناس في معاملته، وأدانوه ديونا، أو رغبوا في مناكحته، فزوجوه إن كان ذكرا، أو تزوجت الأنثى لذلك، فعن أحمد روايتان:
أُولاهما: ليس له الرجوع.
قال أحمد، في رواية أبي الحارث، في الرجل يهب لابنه مالا: فله الرجوع، إلا أن يكون غرّ به قوما، فإن غر به، فليس له أن يرجع فيها.
وهذا مذهب مالك؛ لأنه تعلق به حق غير الابن، ففي الرجوع إبطال حقه، وقد قال - عليه السلام -: لا ضرر ولا ضرار؛ وفي الرجوع ضرر. ولأن في هذا تحيلا على إلحاق الضرر بالمسلمين، ولا يجوز التحيل على ذلك.
والثانية: له الرجوع؛ لعموم الخبر، ولأن حق المتزوج والغريم لم يتعلق بعين هذا المال، فلم يمنع الرجوع فيه.
الرابع: أن لا تزيد زيادة متصلة، كالسِّمَن، والكبر، وتعلم صنعة.
فإن زادت، فعن أحمد روايتان:
إحداهما: لا تمنع الرجوع. وهو مذهب الشافعي؛ لأنها زيادة في الموهوب، فلم تمنع الرجوع، كالزيادة قبل القبض، والمنفصلة.
والثانية: تمنع. وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن الزيادة للموهوب له، لكونها نماء ملكه، ولم تنتقل إليه من جهة أبيه، فلم يملك الرجوع فيها، كالمنفصلة، وإذا امتنع الرجوع فيها، امتنع الرجوع في الأصل، لئلا يفضي إلى سوء المشاركة، وضرر التشقيص...
وأما الزيادة المنفصلة، كولد البهيمة، وثمرة الشجرة، وكسب العبد، فلا تمنع الرجوع بغير اختلاف نعلمه، والزيادة للولد؛ لأنها حادثة في ملكه " انتهى من المغني (6/ 56).
والمعتمد عند الحنابلة: كالحنفية؛ وهو أن الزيادة المتصلة تمنع رجوع الأب أو الأم في الهبة.
وينظر: كشاف القناع (4/ 315).
وعليه، فإذا كان إخوانك قد رضُوا بالهبة وهم بالغون راشدون، وكانت الهبة سطحا قد بنيتَ عليه دارا، فإن الأم لا يمكنها الرجوع في هبتها؛ لأن الهبة قد زادت زيادة متصلة بها وهي البناء.
وأما إن كان إخوانك أو أحد منهم لم يرض بالهبة، فعلى الأم أن تعطيه مثل ما أعطتك، أو تسترد الهبة، وهذا لم يعد ممكنا، لما ذكرنا.
وحينئذ؛ فالذي يظهر أنها تأخذ منك ثمن السطح حينئذ، ولا تعطي المعترض شيئا، أو تعوّض أنت أخاك، أو إخوتك الذين اعترضوا على الهبة من أصلها، بنصيبهم من ثمن السطح، ويكون السطح لك.
ثالثا:
إذا لم يكن للأم الرجوع في الهبة-بحسب ما قدمنا-فأصرت على الرجوع، فينبغي نصحها، وبيان الحكم الشرعي لها، ولو بتوسيط من يقوم بذلك من أهل العلم والفضل.
فإن أبت وأرادت إخراج الولد من منزله، أو أرادت حرمانه من مالها ونحو ذلك، فله أن يرفع الأمر للقضاء، ولا يعدّ ذلك عقوقا منه؛ لما روى البخاري (14422) أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلَيَّ، فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي المَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ.
فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (3/ 292): "وفيه جواز التحاكم بين الأب والابن، وأن ذلك بمجرده لا يكون عقوقا" انتهى.
وينظر: جواب السؤال رقم 172063
والله أعلم.