اتصل بي أحد الأصدقاء، وأخبرني أنه يوجد عملا في المصنع الذي يعمل فيه، مقابل أجرة 2500 يوميا، فقبلت؛ لأن المكان الذي كنت أعمل فيه كان بعيد جدا، وبعد مرور شهر في العمل الجديد تفاجأت أن صديقي يأخذ من راتبي يوميا 1500، متفق بذلك مع رب العمل دون استشارتي أو علمي، لأن الأجر في الأصل هو 4000 يوميا، فهل هذا الاتفاق بينهما دون علمي جائز؟ وهل المال الذي يأخذه حلال؛ لأنني لو كنت أعلم مسبقا لما قبلت العمل؟
الحمد لله.
أولا:
ربح المال من الغير: إنما يستحق بإحدى طرق ثلاث: إما بالعمل؛ ويكون المال أجرة هذا العمل. أو بالضمان: أن يضمن لصاحب العمل أن يؤديه له، ولو لم يقم الضامن بهذا العمل بنفسه، بل أحضر من يقوم به، ويكون ربحه في مقابل هذا الضمان. أو المال: أن يضارب غيره بماله، ويكون ربحه هو نماء ماله.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (26/60): " استحقاق الربح:
لا يُستحق الربح إلا بالمال أو العمل أو الضمان؛ فهو يُستحق بالمال، لأنه نماؤه فيكون لمالكه. ومن هنا استحقه رب المال في ربح المضاربة.
وهو يُستحق بالعمل حين يكون العمل سببه: كنصيب المضارب في ربح المضاربة، اعتبارا بالإجارة.
ويُستحق بالضمان كما في شركة الوجوه. لقوله صلوات الله وسلامه عليه: الخراج بالضمان أو : (الغلة بالضمان) ، أي من ضمن شيئا فله غلته. ولذا ساغ للشخص أن يتقبل العمل من الأعمال كخياطة ثوب – ويتعهد بإنجازه لقاء أجر معلوم ثم يتفق مع آخر على القيام بهذا العمل بأجر أقل من الأجر الأول، ويربح هو فرق ما بينهما حلالا طيبا – لمجرد أنه ضمن العمل، دون أن يقوم به: وعسى أن لا يكون له مال أصلا.
فإذا لم يوجد أحد هذه الأسباب الثلاثة، التي لا يستحق الربح إلا بواحد منها، لم يكن ثم سبيل إليه" انتهى.
ثانياً:
بناء على ما سبق؛ فإن صديقك يستحق هذه العمولة المتكررة : لو كان قد اتفق مع صاحب المصنع على ضمان القيام بهذا العمل؛ سواء عمله هو بنفسه، إن كان يمكنه ذلك، أو يأتي بشخص آخر، يستأجره هو من الباطن لأداء هذا العمل؛ فهذا جائز، إن كان هو "الضامن" لأداء هذا العمل، ولم يشترط عليه صاحب المصنع أن يعمله بنفسه، أو بشخص آخر معين.
وفي صورة سؤالك: يصح ذلك، إن كان اتفاقك مع صاحبك مباشرة، فتعمل أنت له، ويكون أجرك منه، ولا علاقة لك بصاحب العمل، فلا تضمن له عملا، ولا يضمن لك هو أجرا.
ولصاحبك – حينئذ -: أن يتفق معه على 4000، ثم يعود ويستأجرك أنت من الباطن على 2500 .
وهذا جائز، كما قلنا؛ إذا لم يُشترط عليه أن يعمل هو بنفسه، ويجب هنا أن يكون اتفاقك معه؛ لا أن يحيلك إلى صاحب العمل لتتفق معه.
قال في "كشاف القناع" (3/ 566): " (وإذا تقبّل) الأجير (عملا في ذمته بأجرة كخياطة أو غيرها، فلا بأس أن يقبّله غيره بأقل منها) أي أجرته … ؛ لأنه إذا جاز أن يقبّله بمثل الأجر الأول، أو أكثر، جاز بدونه كالبيع، وكإجارة العين " انتهى.
وقال في (4/30): " (ومن استؤجر لعمل شيء في الذمة ولم يُشترط عليه مباشرته، فمرض، وجب عليه أن يقيم مقامه من يعمله) ليخرج من الحق الواجب في ذمته كالمسلم فيه (والأجرة عليه) أي على المريض لأنها في مقابلة ما وجب عليه، ولا يلزم المستأجر إنظاره لأن العقد بإطلاقه يقتضي التعجيل (إلا فيما يختلف فيه القصد كنسخ، فإنه يختلف باختلاف الخطوط، ولا يلزم المستأجر قبوله) أي قبول عمل غيره لأن الغرض لا يحصل به …
(وإن شرط) المستأجر (عليه) أي على الأجير (مباشرته فلا استنابة إذن) لوجود الشرط" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " لو أن الإنسان استؤجر على عمل في الذمة، بأن قيل له: نريد أن تنظف هذا البيت كل يوم ولك في الشهر مائة ريال، فاستأجر من ينظف البيت كل يوم على حسب ما حصل عليه العقد، لكن بخمسين ريالا، يجوز؛ لأن هذا من جنس ما إذا قلنا: إنه يجوز أن يؤجر بقية مدته بأكثر من الأجرة، وعلى هذا عمل الناس اليوم، تجد الدولة مثلا ـتتفق مع شركة على تنظيف المساجد، كل مسجد الشهر بكذا وكذا، ثم إن هذه الشركة تأتي بعمال يقومون بما تم عليه العقد بأقل من ربع ما اتفقت الشركة مع الحكومة عليه، إلا إذا كان الغرض يختلف بالنسبة للمستأجر، فإذا كان يختلف فهذا لا يجوز، مثل: إنسان استأجرته لينسخ لك "زاد المستقنع" [كتاب في الفقه الحنبلي]، وتعرف أن الرجل خطه جيد، وأن خطأه قليل، فاستأجر إنسانا خطه جميل يخطه بأقل مما أجرته به. يقول العلماء: إنه لا يجوز؛ لأن العبرة بالنسخ وليس بجمال الخط فحسب، ولكن بجمال الخط ووضع الفواصل والعلامات والإملاء…
المهم على كل حال: ما يختلف فيه الغرض لا يجوز لأحد أن يقيم مقامه غيره " انتهى من "الشرح الممتع" (10/39).
ثالثاً:
إذا لم يكن صاحبك قد ضمن العمل لصاحب المصنع، وتقبله في ذمته؛ وإنما هو مجرد وسيط بينك وبينه؛ فإن كان محسنا، فليس له أن يعود فيأخذ شيئا.
وإن كان إنما توسط بينكما بأجر، فالواجب عليه أن يتفق على أجرته مع من توكل عنه، أو توسط له، وأخذ الأجرة من ماله، وألا يعمي عليه شيئا، ولا يغرر به، ولا يغشه.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) رواه مسلم (101).
وعَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ) رواه أحمد (20695)، وصححه الألباني.
وعلى ذلك، فإن كنت قد طلبت منه أن يبحث لك عن عمل، أو عرض عليك هو أن يبحث لك عن عمل، أو يتوسط لك فيه، ولم يكن محسنا، فالواجب أن يشترط عليك الأجرة التي تتفقان عليها، وليس له أن يتفق مع صاحب العمل أن يأخذ شيئا من أجرتك الحقيقية، دون علم منك وطيب نفس؛ ثم يظهر أنه محسن إليك!!
ولا يحل له أن يغرر بك، أو يتفق مع صاحب العمل على أن تأخذ أنت أقل من أجرة مثلك ممن يعملون في هذا المكان، ليربح هو فرق ما بين الأجرتين، أو يوفرها لصاحب العمل، رعاية له، أو ليأخذ منها شيئا.
وإن كان قد توكل عن صاحب المصنع، فأجرته عليه، وليس له أن يأخذ شيئا من مستحقاتك، بغير اتفاق معك، وطيب نفس منك.
رابعا:
إذا عرفت حقيقة الحال، واكتشفت أن أجرك الحقيقي هو 4000 آلاف، ويأخذ صاحبك 1500 منها؛ فأنت بالخيار:
فإما أن تمضي العقد على ما هو عليه، إذا رأيت في ذلك مصلحة لك، ثم إذا كان العقد محدد المدة، وانتهت مدته، فلك أن تتفق على عقد من جديد، وتشترط فيه ما يلائمك.
وإن لم تقبل بذلك، فما حصل من صاحبك تغرير لك، وغبن فاحش، والفرق المذكور بين الأجرتين: غبن فاحش، تستحق به أن تفسخ العقد، ثم إن أحببت أن تدخل في عقد من جديد، أو تترك العمل.
بل الذي يظهر أن ما يأخذه هذا الوسيط من مالك ومستحقاتك، من غير اتفاق معك، ولا هو معروف بأنه يعمل في هذا الوساطة، مقابل أجر معين؛ الذي يظهر أنه مهما أخذ من مالك من شيء، ولو قليل، فهو حرام عليه، ولا يلزمك أن تبذله له، مطلقا، ويحق لك أن تفسخ العقد الذي غررك بك فيه، إن لم تتمكن من استيفاء أجرتك كاملة، ولا يلزمك إتمام هذا العقد، ولو كان الفرق قليلا، ما دمت لم ترض بذلك.
والله أعلم.