سمعت من أحد علماء الفقه المعاصرين عن درجات قيام الليل من أدناها إلى أفضلها، فقال: في الدرجة الرابعة وهي الأفضل: النوم قبلها وبعدها قبيل الفجر، فإن من استيقظ فصلى ثم عاد فرقد يكون قد استيقظ لها لا لصلاة الفجر، وأنه من الأفضل أن يضطجع بعد الوتر حتى لو لم يغفُ، فإنه يكون قد حقق المطلوب، وقد حاولت البحث في الموضوع مرارًا فلم أجد شيئًا لا من قريب ولا من بعيد.
فهل يصح هذا ؟ ومن لم يفعل أينقص من أجره شيء، أو يفوته شيءٌ من الأجر؟
الحمد لله.
أولا:
صلاة الليل درجات:
1- فأعلاها أن ينام ثم يصلي ثم ينام، وهذه صلاة داود عليه السلام.
روى البخاري (3420)، ومسلم (1159) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنٍ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ” قوله: “أحب الصلاة إلى الله صلاة داود”، قال المهلب: كان داود عليه السلام يُجِمُّ نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه: هل من سائل فأعطيه سؤله، ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل.
وهذا هو النوم عند السحر كما ترجم به المصنف، وإنما صارت هذه الطريقة أحب: من أجل الأخذ بالرفق للنفس التي يخشى منها السآمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يمل حتى تملوا”. والله يحب أن يديم فضله، ويوالي إحسانه.
وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يريح البدن، ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم، بخلاف السهر إلى الصباح.
وفيه من المصلحة أيضا: استقبال صلاة الصبح وأذكار النهار، بنشاط وإقبال، وأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون، سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفي عمله الماضي على من يراه. أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد” انتهى من “فتح الباري” (3/ 16).
وروى البخاري (1133) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: “مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلَّا نَائِمًا”، تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن الجوزي رحمه الله: ” السحر: آخر الليل.
وكان صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل، فربما قام نصف الليل أو قبله فيصلي، فإذا جاء السحر عاد إلى نومه، وقد قال: ” أفضل الصلاة صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه ” وقد قيل: إن سبب الصفرة في الوجه سهر آخر الليل، فإذا نام الإنسان قبل الفجر لم تظهر عليه صفرة في الوجه، ولا أثر في السهر” انتهى من “كشف المشكل” (4/ 352).
2-ويليها: أن ينام ثم يصلي، وهذه ناشئة الليل، وهي التهجد عند جماعة من أهل العلم، فقد اشترطوا فيه أن يكون بعد نوم.
قال تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) المزمل/6
قال في “شرح منتهى الإرادات” (1/ 246): “(والتهجد) الصلاة (بعد نومٍ) ليلا (والناشئة: ما) صلى (بعد رقدة) قال أحمد: الناشئة لا تكون إلا بعد رقدة، ومن لم يرقد فلا ناشئة له، وهي أشد وطئا: أي: تثبتا، تفهم ما تقرأ، وتعي أذنك” انتهى.
وقال في “كشاف القناع” (1/ 435): “(والتهجد إنما هو بعد النوم) وظاهره: ولو يسيرا” انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله: ” ” والتهجد: من الهجود، وهو من الأضداد؛ يقال: هجد: نام؛ وهجد: سهر؛ على الضد. …
وهجد وتهجّد بمعنى، وهجَّدتُّه أي: أَنَمْتُه، وهجَّدتُّه، أي: أيقظتُه.
والتهجد التيقظ بعد رقدة، فصار اسما للصلاة؛ لأنه ينتبه لها، فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم. قال معناه الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهم.
وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي، من حديث الحجاج بن عمرو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد، إنما التهجد: الصلاة بعد رقدة، ثم الصلاة بعد رقدة، ثم الصلاة بعد رقدة؛ كذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الهجود النوم يقال: تهجد الرجل إذا سهر وألقى الهجود وهو النوم، ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا، لأن المتهجد هو الذي يُلقي الهُجودَ الذي هو النوم عن نفسه ” انتهى من “تفسير القرطبي” (10/ 307).
3-ويليها: أن يصلي فيما بين العشاء إلى الفجر دون نوم، أو فيما بين المغرب إلى الفجر، كما هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
ثانيا:
الاضطجاع الخفيف ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفجر، وبعده، بعد ركعتي الفجر.
روى البخاري (626) عن عائشة قالت : ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر: قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر، بعد أن يستبين الفجر، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة”.
وروى مالك (8) عنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ “يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ”.
قال في “البحر المحيط الثجاج” (15/ 468): ” اتفق أصحاب الزهريُّ، فرووا هذا الحديث عنه، فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، لا بعد الوتر، فقالوا: “فإذا تبيّن له الفجر، وجاءه المؤذن ركع ركعتين خفيفتين، ثمَّ اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة”.
وخالفهم في ذلك مالك، فجعله بعد الوتر، فقال: يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن.
وزعم محمد بن يحيى الذُّهْليّ وغيره: أن الصواب رواية الجمهور.
وردّه ابن عبد البر بأنّه لا يدفع ما قاله مالك؛ لموضعه من الحفظ والإتقان، ولثبوته في ابن شهاب، وعلمه بحديثه، وقد قال يحيى بن معين: إذا اختلف أصحاب ابن شهاب، فالقول ما قاله مالك، فهو أثبتهم فيه، وأحفظهم لحديثه. ويَحْتَمِل أن يضطجع مرة كذا، ومرة كذا.
ولرواية مالك شاهد، وهو حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن اضطجاعه كان بعد الوتر، وقبل ركعتي الفجر، فلا ينكر أن يحفظ ذلك مالك في حديث ابن شهاب، وإن لم يتابَع عليه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الحافظ أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ- هو الأولى من تغليط حافظ متقن، فالجمع مهما أمكن هو المتعيِّن، فيُحْمَل على أنه كان يضطجع أحيانًا بعد الوتر، وأحيانًا بعد ركعتي الفجر، واللَّه تعالى أعلم” انتهى.
وينظر: جواب السؤال رقم: (32667).
وهذا الاضطجاع الخفيف قبل الفجر، لا يتحقق به المرتبة الأولى التي هي صلاة داود عليه السلام، ولم يواظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل أكثر الأحاديث على أن اضطجاعه هذا كان بعد الفجر.
وكل هذه المراتب حسنة جميلة، يؤجر عليها الإنسان، وأحبها إلى الله المرتبة الأولى.
والله أعلم.