ماذا قصد ابن رجب رحمه الله في نهاية حديثه : ” وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار، بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر، كعقوبة أصحاب الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم العذاب، بحسنات أخرى له، أو بما شاء الله من الأسباب، ولهذا يموت بعضهم في النار” هل يموت عصاة الموحدين قبل أن يدخلوا الجنة؟
الحمد لله.
أولاً:
عصاة الموحدين الذين يدخلون النار لهم أحوال مختلفة على قدر معاصيهم.
وروى مسلم (2845) عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حُجْزَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى عُنُقِهِ .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “من يدخل النار من الموحدين فإن أحوالهم في التعذيب تختلف بحسب أعمالهم” انتهى من “فتح الباري” (11/ 394):
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في حديثه عن مصير الناس في الآخرة: “وقوم لقوا الله تعالى مُصِرِّين على كبائر الإثم والفواحش، ومعهم أصل التوحيد، فرجحت سيئاتهم بحسناتهم، فهؤلاء هم الذين يدخلون النار بقدر ذنوبهم، فمنهم من تأخذه إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم فوق ذلك، حتى إن منهم من لم يحرم منه على النار إلا أثر السجود؛ حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود.
وهؤلاء هم الذين يأذن الله تعالى بالشفاعة فيهم لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولغيره من الأنبياء من بعده، والأولياء، والملائكة، ومن شاء الله أن يكرمه. فيحد لهم حدا فيخرجونهم، ثم يحد لهم حدا فيخرجونهم، ثم هكذا، فيخرجون من كان في قلبه وزن دينار من خير، ثم من كان في قلبه نصف دينار من خير، ثم برة، ثم خردلة، ثم ذرة، ثم أدنى من ذلك، إلى أن يقول الشفعاء: ربنا لم نذر فيها خيرا.
ويخرج الله تعالى من النار أقواما لا يعلم عدتهم إلا هو، بدون شفاعة الشافعين.
ولم يخلد في النار أحد من الموحدين؛ ولو عمل أي عمل.
ولكن كل من كان منهم أعظم إيمانا، وأخف ذنبا: كان أخف عذابا في النار، وأقل مكثا فيها، وأسرع خروجا منها.
وكل من كان أضعف إيمانا وأعظم ذنبا، كان بضد ذلك. والعياذ بالله». انتهى، من “معارج القبول بشرح سلم الوصول” (3/ 1023).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (21672).
ثانياً:
ثبت في السنة أن ممن يعذب في النار، من عصاة الموحدين: من تميتهم النار إماتة.
وأما الذين لا يموتون فيها من العذاب، ولا يستريحون: فهم أهلها المخلدون فيها، وهم الذين المعنيون بقوله تعالى: (ثم لا يموت فيها ولا يحيى).
فعَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم:
)أما أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَلَا يَحْيَوْنَ.
وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ – أَوَ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ – فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً.
حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا، أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ. فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ. فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ. ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ. فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ)
رواه مسلم (306).
قال النووي رحمه الله:
«وأما معنى الحديث: فالظاهر، والله أعلم، من معنى هذا الحديث: أن الكفار الذين هم أهل النار، والمستحقون للخلود: لا يموتون فيها، ولا يحيون حياة ينتفعون بها، ويستريحون معها، كما قال الله تعالى: ( لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها )، وكما قال تعالى: ( ثم لا يموت فيها ولا يحيى ).
وهذا جار على مذهب أهل الحق: أن نعيم أهل الجنة دائم، وأن عذاب أهل الخلود في النار دائم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ( ولكن ناس أصابتهم النار) إلى آخره، فمعناه: أن المذنبين من المؤمنين يميتهم الله تعالى إماتة، بعد أن يُعذبوا المدة التي أرادها الله تعالى.
وهذه الإماتة: إماتة حقيقية، يذهب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يميتهم، ثم يكونون محبوسين في النار من غير إحساس، المدة التي قدرها الله تعالى، ثم يخرجون من النار موتى، قد صاروا فَحَمًا، فيُحملون ضبائر، كما تحمل الأمتعة، ويُلقون على أنهار الجنة، فيصب عليهم ماء الحياة، فيحيون، وينبُتون نبات الحِبَّة في حَميل السيل، في سرعة نباتها، وضعفها، فتخرج لضعفها صفراء ملتوية، ثم تشتد قوتهم بعد ذلك، ويصيرون إلى منازلهم، وتكمل أحوالهم.
فهذا هو الظاهر من لفظ الحديث” انتهى من “شرح النووي على مسلم” (3/ 38).
وقد سئل الإمام النووي، رحمه الله: “هل يموت أحد في جهنم؟ وهل صح في ذلك حديثٌ أم لا؟ فإن صح، فما معنى هذا الموتِ؟ ولمن هو؟”.
فأجاب:
” ثبت في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( أمَّا أهْلُ النَار، الذينَ هُمْ أهلُها: فإنَّهم لا يَمُوتونَ فيها، ولا يَحْيوْنَ.
ولكن ناسٌ أصَابتْهُم النَارُ بِذُنوبِهمْ -أو قال: بِخَطاياهم- : فأماتَهُمُ الله إِماتَةً، حتَى إِذا كانوا فَحَمًا، أذِنَ بالشَفاعَةِ، فَجيء بهمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَيأتُوا على أنهَار الجنَّة.
ثم قيل: يا أهل الجنَّة، أفيضُوا عَليهم. فَيَنْبُتُون نباتَ الحِبَّة تكُونُ في حميلِ السَّيل ).
قال العلماء: المراد بأهلها الذين هم أهلها: الكفار؛ فلا يخرجون منها أبدًا، ولا يموتون فيها أصلًا. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}.
وأما من عصاة الموحدين، أصحاب الكبائر: فيُعذبون علىِ قدْر ذنوبهم، المدةَ التي قدَّرها الله تعالى عليهم، ثم يموتون موتةً خفيفةً، يذهب فيها إِحساسهم، ثم يبقون محبوسين في النار من غير إِحساس، المدةَ التي قدرها الله تعالى، ثم يخرجون موتى قد صاروا فحمًا، كما تُحمل الأمتعة، فَيُلْقَوْن على أنهار الجنة، وُيصبُّ عليهم ماءُ الحياة، فيحيَوْنَ، وينبتون في أول حياتهم نباتًا ضعيفًا؛ لكنه بسرعة، كنبات الحبة – بكسر الحاء-، ثم تشتدُّ قوتهم، وتكمل أحوالهم، ويصيرون إِلى منازلهم في الجنة. والله أعلم”. انتهى، من «فتاوى النووي» (ص84).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: « فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الصِّليَّ لأهل النار، الذين هم أهلها.
وأن الذين ليسوا من أهلها: فإنها تصيبهم بذنوبهم، وأن الله يميتهم فيها، حتى يصيروا فحَما، ثم يشفع فيهم، فيخرجون، ويؤتى بهم إلى نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل». انتهى، من “مجموع الفتاوى” (16/ 195).
وقال الحافظ ابن رجب، رحمه الله: «وقد جعل الله نبات أجساد بني آدم كنبات الأرض، قال الله تعالى {والله أنبتكم من الأرض نباتا} وحياتهم من الماء؛ فنشأتهم الأولى في بطون أمهاتهم: من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب.
ونشأتهم الثانية من قبورهم: من الماء الذي ينزل من تحت العرش، فينبتون فيه كنبات البقل، حتى تتكامل أجسادهم، ونبات من يدخل النار، ثم يخرج منها من ماء نهر الحياة – أو الحيا.
وفي ” صحيح مسلم ” عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أما أهل النار الذين هم أهلها: فلا يموتون فيها ولا يحيون؛ ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم – أو قال: بخطاياهم -، فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحما، أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة! أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحِبة في حميل السيل .
وظاهر هذا: أنهم يموتون بمفارقة أرواحهم لأجسادهم، ويحيون بإعادتها، ويكون ذلك قبل ذبح الموت.
ويشهد له: ما خرجه البزار في ” مسنده ” من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أدنى أهل الجنة منزلة، أو نصيبا: قوم يخرجهم الله من النار، فيرتاح لهم الرب عز وجل؛ أنهم كانوا لا يشركون بالله شيئا، فينبذون بالعراء، فينبتون كما ينبت البقل، حتى إذا دخلت الأرواح في أجسادهم، قالوا: ربنا! بالذي أخرجتنا من النار، ورجعت الأرواحَ إلى أجسادنا، فاصرف وجوهنا عن النار، فتصرف وجوههم عن النار”. انتهى، من “فتح الباري لابن رجب” (1/ 96).
وينظر أيضا: “التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار” لابن رجب (ص259).
وقال القرطبي، رحمه الله: « فقوله (فأماتهم الله) حقيقة في الموت، لأنه أكده بالمصدر، وذلك تكريما لهم.
وقيل: يجوز أن يكون (أماتهم) عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة.
والأول أصح”. انتهى، من “تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن” (1/ 249).
وينظر أيضا: “التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة” (ص769-771).
والله أعلم.