لماذا لا يُسمح للمرأة بتزيين نفسها خلال فترة العدّة؟
الحمد لله.
أولا:
يلزم المرأة الممتوفى عنها زوجها ترك الزينة حتى تنتهي عدتها، وعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، إلا أن تكون حاملا، فإن عدتها إلى وضع الحمل.
ومستند ترك الزينة أحاديث كثيرة، منها ما روى البخاري (5342)، ومسلم (938) عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ).
وثوب العصب ثياب يمينة ليست للزينة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت؛ نبذة قسط أو أظفار).
قال النووي: “النبذة: القطعة والشيء اليسير.
وأما القُسط فهو والأظفار: نوعان معروفان من البخور، وليسا من مقصود الطيب. رُخص فيه للمغتسلة من الحيض؛ لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم، لا للتطيب، والله تعالى أعلم” انتهى من “شرح مسلم” (10/ 118).
وروى أحمد (26581) وأبو داود (2304) والنسائي (3535) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا الْمُمَشَّقَةَ، وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَخْتَضِبُ، وَلَا تَكْتَحِلُ) وصححه الألباني.
والمعصفر: المصبوغ بالعصفر، والممشقة: الْمَصْبُوغَةَ بِالْمِشْقِ وَهُوَ الْمغرَة، فتمنع من لبس الثياب الملونة للزينة.
والخضاب بالحناء ونحوه.
فالمحدّة تُمنع من الزينة، في بدنها وفي ثيابها، عند عامة العلماء؛ للأحاديث الواردة في ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله عما تجتنبه المحدة:
“اجتناب الزينة، وذلك واجب في قول عامة أهل العلم؛ منهم ابن عمر، وابن عباس، وعطاء. وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك، وينهون عنه.
وهو ثلاثة أقسام:
أحدها: الزينة في نفسها.
فيحرم عليها أن تختضب، وأن تُحمر وجهها بالكلكون، وأن تبيضه بأسفيداج العرائس، وأن تجعل عليه صبرا يصفره، وأن تنقش وجهها ويديها، وأن تحفف وجهها، وما أشبهه مما يحسنها، وأن تكتحل بالإثمد من غير ضرورة.
وذلك لما روت أم سلمة، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «المتوفى عنها زوجها، لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشق، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» . رواه النسائي، وأبو داود…
القسم الثاني: زينة الثياب.
فتحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين، كالمعصفر، والمزعفر، وسائر الأحمر، وسائر الملون للتحسين، كالأزرق الصافي، والأخضر الصافي، والأصفر، فلا يجوز لبسه؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا تلبس ثوبا مصبوغا» . وقوله: «لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق» .
فأما ما لا يقصد بصبغه حسنُه، كالكحلي، والأسود، والأخضر المشبع، فلا تمنع منه؛ لأنه ليس بزينة…
القسم الثالث: الحلي.
فيحرم عليها لبس الحلي كله، حتى الخاتم، في قول عامة أهل العلم؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ولا الحلي»” انتهى من “المغني” (8/ 156).
ثانيا:
ذكر الفقهاء أن الحكمة في ترك الزينة هنا: إظهار الأسف على فراق زوجها وموته، وإظهار أهمية الزواج وشرفه وقدره، والبعد عما يثير الشهوة في هذه المدة التي تمنع فيها من النكاح، والتزين والتجمل مدعاةٌ للخِطبة والزواج، فمنعت من ذلك تبعا للعدة.
قال ابن القيم رحمه الله: ” أما الإحداد على الأزواج: فإنه تابع للعدة، وهو من مقتضياتها ومُكمِّلاتها، فإن المرأة إنما تحتاج إلى التزيُّن والتَّجمُّل والتعطر، لتتحبب إلى زوجها وترد له نفسَه، ويحسن ما بينهما من العشرة، فإذا مات الزوج، واعتدت منه، وهي لم تصل إلى زوج آخر، فاقتضى تمام حق الأول، وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله: أن تُمنعَ مما تصنعه النساء لأزواجهن.
مع ما في ذلك من سَدِّ الذريعة إلى طمعها في الرجال، وطمعهم فيها، بالزينة والخِضَاب والتطيُّب.
فإذا بلغ الكتاب أجله، صارت محتاجةً إلى ما يُرغِّب في نكاحها، فأبيح لها من ذلك ما يباح لذات الزوج.
فلا شيء أبلغ في الحسن من هذا المنع والإباحة، ولو اقترحت عقول العالمين، لم تقترح شيئًا أحسن منه” انتهى من “إعلام الموقعين” (3/ 417).
وقال ولي الله الدهلوي رحمه الله: ” وَيجب عَلَيْهَا الْإِحْدَاد فِي هَذِه الْمدَّة، وَذَلِكَ لوجوه:
أَحدهَا: أَنَّهَا لما وَجب عَلَيْهَا أَن تَتَرَبَّص، وَلَا تنْكح، وَلَا تخْطب فِي هَذِه الْمدَّة، حفظا لنسب الْمُتَوفَّى عَنْهَا؛ اقتضى ذَلِك فِي حكمه السياسة: أَن تُؤمر بترك الزِّينَة؛ لِأَن الزِّينَة تهيج الشَّهْوَة من الجابيين، وهيجانها فِي مثل هَذِه الْحَالة مفْسدَة عَظِيمَة.
وَأَيْضًا: فإن من حسن الْوَفَاء أَن تحزن على فَقده، وَتصير تفلة شعثة، وَأَن تُحد عَلَيْهِ، فَذَلِك من حسن وفائها، وَتَحْقِيق معنى قصر بصرها عَلَيْهِ ظَاهرا” انتهى من “حجة الله البالغة” (2/ 220).
وينظر: “المغني” (8/ 164).
وأيضا:
” الإحدادُ على الزَّوجِ مِن تَعظيمِ هذا العَقدِ، وإظهارِ خَطَرِه وشَرَفِه، وأنَّه عندَ الله بمكانٍ؛ فجُعِلَت العِدَّةُ حريمًا له، وجُعِلَ الإحدادُ مِن تمامِ هذا المقصودِ، وتأكُّدِه ومَزيدِ الاعتناءِ به، حتى جُعِلَت الزَّوجةُ أَولى بفِعلِه على زَوجِها، مِن أبيها وابنِها وأخيها وسائِرِ أقارِبِها.
والإحدادُ على الزَّوجِ: يدُلُّ على تأكُّدِ الفَرقِ بينَه وبينَ السِّفاحِ، مِن جميعِ أحكامِه. ولهذا شُرِعَ في ابتدائِه إعلانُه والإشهادُ عليه والضَّربُ بالدُّفِّ؛ لتحَقُّقِ المضادَّةِ بينه وبينَ السِّفاحِ، وشُرِعَ في آخِرِه وانتهائِه، من العِدَّةِ والإحدادِ: ما لم يُشرَعْ في غَيرِه”. انتهى.
ثالثا:
أما المطلقة الرجعية: فإنها تتزين لزوجها في العدة؛ لأنها في حكم الزوجة، ولعله يرغب فيها فيراجعها.
وأما المطلقة ثلاثا: فاختُلف في وجوب ترك الزينة عليها، على قولين:
الأول: أنه يلزمها ترك الزينة، كالمتوفى عنها زوجها، وهو مذهب الحنفية.
الثاني: لا يلزمها ذلك، وهو مذهب المالكية والشافعية .
وينظر: “المغني” (8/ 164) ، “كشاف القناع” (5/ 428).
والواجب على المؤمن أن يسلّم لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا يكون في نفسه حرج منه، وأن يعلم يقينا أنه الحكم المشتمل على الحكمة والرحمة، وأنه لا أحسن منه ولا أفضل.
قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة/50.
وقال سبحانه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً) النساء/65.
والله أعلم.