الحمد لله.
الصحيح من أقوال أهل العلم هو مذهب الحنفية والحنابلة القائلين بعدم جواز سفر المرأة للحج أو غيره من غير محرم ؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تُسَافِر الْمَرْأَةُ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ) رواه البخاري ( 1862 ) ومسلم ( 1341 ) .
وقد سبق بيان ذلك في أجوبة الأسئلة : ( 3098 ) و ( 34380 ) و ( 47029 ) .
إلا أن بعض أهل العلم كالشافعية ، والمالكية ، وبعض السلف ، قالوا بجواز سفر المرأة للحج من غير محرم إذا وجدت الرفقة المأمونة .
واستدلوا بما ذكره السائل من أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم حججن من غير محرم ، وذلك فيما أخرجه البخاري رحمه الله ( 1860 ) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أذِن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها ، فبعث معهن عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف .
وللعلماء أصحاب القول الأول عدة أجوبة على هذا الاستدلال ، فمن ذلك :
1. قالوا : ليس في الحديث أنه لم يكن معهن محرم ، فلعل محارمهن كانوا معهن في قافلة الحج نفسها ، وبعثُ عمرَ بنِ الخطاب معهنَّ عثمانَ بن عفان وعبدَ الرحمن بن عوف زيادةٌ في الإكرام والاطمئنان ، ولا يُظن بالصحابة مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر المرأة من غير محرم ، خاصة وقد جاء في بعض الروايات – وإن كان في سندها مقال – ما يدل على وجود محارمهن .
فقد روى ابن الجوزي في " المنتظم " في حوادث سنة ( 23 هـ ) عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بإسنادهم قالوا : حجَّ عمر بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم معهن أولياؤهن ممَنْ لا تحتجبن منه ، وجعل في مقدم قطارهن : عبد الرحمن بن عوف ، وفي مؤخره : عثمان بن عفان .. الخ .
ثم إنه يبعد جدا ألا يكون معهن أحد من محارمهن ، مع كثرة المسافرين للحج معهن من المدينة ، فالغالب أنه لن يخلو الأمر من أخ أو جد أو خال أو عم أو أحد المحارم من الرضاعة ، وقد كانت الرضاعة كثيرة في ذلك الوقت .
2. ثم على فرض أنه لم يكن معهن محرم : فهو اجتهاد منهن ، ومعلوم أن اجتهاد الصحابي لا يُقبل إذا خالف نصّاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الصنعاني رحمه الله :
" ولا تنهض حجة على ذلك ؛ لأنه ليس بإجماع " .
" سبل السلام " ( 2 / 930 ) .
3. وأجاب فريق ثالث من أهل العلم بخصوصية ذلك بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهن أمهات المؤمنين ، وجميع الرجال محارم لهن .
قال أبو حنيفة رحمه الله :
"كان الناس لعائشة محرماً ، فمع أيهم سافرت فقد سافرت بمحرم ، وليس الناس لغيرها من النساء كذلك " انتهى .
" عمدة القاري " ( 10 / 220 ) .
إلا أن جواب أبي حنيفة هذا غير مُسَلَّم ؛ لأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في مقام أمهات المؤمنين في تحريم النكاح ، وليس في المحرمية ، وإلا فلو كن أمهاتٍ للمؤمنين في المحرمية أيضا لجاز لهن خلع الحجاب أمامهم والخلوة بهم ونحو ذلك من أحكام المحرمية ، وذلك ما لم يقل به أحد .
يقول ابن تيمية في " منهاج السنة " ( 4 / 207 ) عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم :
" إنهن أمهات المؤمنين في التحريم دون المحرمية " انتهى .
والمعتمد في الجواب هو الجواب الأول .
والحاصل : أنه لا يجوز أن تُرد الأحاديث الصحيحة الصريحة بما يستنبط من بعض أفعال الصحابة المحتملة ، والواجب هو اتباع ما ثبت وليس ما هو محتمل .
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : يقولون إن عائشة رضي الله عنها حجت مع عثمان بدون محرم ؟
فأجاب :
"هذا يحتاج إلى دليل ، لا يجوز أن يقال : حجت بدون محرم بغير دليل ، لا بد أن يكون معها محرم ، فعندها أبناء أخيها ، عندها عبد الرحمن أخوها ، عندها أبناء أختها أسماء ، الذي يقول إنها حجت بدون محرم يكون قوله كذباً إلا بدليل ، ثم لو فرضنا أنها حجت بدون محرم فهي غير معصومة ، كل واحد من الصحابة غير معصوم ، الحجة في قال الله وقال رسوله ، ما هو بحجة قول فلان أو فلان ، ما خالف السنة فلا حجة فيه ، الحجة في السنة المطهرة الصحيحة ، هذا هو المعروف عند أهل العلم ، وهو المجمع عليه .
يقول الشافعي رحمه الله : أجمع الناس على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس .
وقال مالك رحمه الله : ما منَّا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ، (يعني : النبي صلى الله عليه وسلم) .
المقصود : أن الواجب على أهل الإسلام والمؤمنين هو الأخذ بالسنَّة ، لا يجب أن تعارض لقول فلان أو فلان أو فلانة ، ثم لا يظن بعائشة رضي الله عنها وهي الفقيهة المعروفة أفقه نساء العالم ، لا يظن بها أن تخالف السنَّة وتحج بغير محرم ، وهي التي سمعت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى .
" فتاوى الشيخ ابن باز" ( 25 / 361 ، 362 ) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"إذا قال قائل : هذا الحجيج ليس فيه أن معهن محرَماً ، فهل يقال هذا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنهن أمهات المؤمنين ، ليس بمحرمية ولكن باحترام .
أو يقال المحرم هنا مسكوت عنه ، وأُرسل معهن هذان الصحابيان الفاضلان مع المحارم ؟ الأول محتمل ، والثاني محتمل .
فإذا أخذنا بالقاعدة أن يُحمل المتشابه على المُحكم ماذا نقول ؟
الجواب : نقول بالاحتمال الثاني ونقول : لابد أن محارمهن معهن لكن جُعل معهن هذان الصحابيان الجليلان تشريفاً وتعظيماً لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن " انتهى .
" شرح كتاب الحج من صحيح البخاري " ( شريط رقم 19 ، الوجه الثاني ) .
والله أعلم