إذا حاولت أثناء الصلاة أو الدعاء أن أتخيل الكعبة فهل أكون قد حققت المراد من " اعبد الله كأنك تراه " ؟ فإني عندما أتصور شيئاً آخر - وهذا يحدث كثيراً وليست وسوسة - أشعر أني لست في كامل خشوعي ، فعندما أحاول مناجاة الله أريد أن أشعر بهذا , ولأن النظر إلى السماء مكروه في الصلاة ، فأشيروا عليَّ حفظكم الله .
الحمد لله.
الإحسان هو الإتقان ، ومن معانيه العظيمة في الشرع : إتقان العبادات وأدائها على الوجه الذي أمر الله تعالى به .
وإن تذكُّر العابد أن الله تعالى مطلع عليه وناظر إليه : يوجب الإتقان في العبادة ، ويبلغ بعبادته مبلغاً عالياً .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : مَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ ، قَالَ : مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، قَالَ : مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) رواه البخاري ( 50 ) ومسلم ( 9 ) .
قال ابن رجب رحمه الله : " يشير إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة ، وهي استحضار قربه ، وأنه بين يديه كأنه يراه ؛ وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم .. ويوجب أيضا النصح في العبادة ، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها " انتهى .
جامع العلوم والحكم (1/35) .
وقال أيضا : " وأصل الخشوع هو لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته ؛ فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء ؛ لأنها تابعة له ؛ كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَا َإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ) [ رواه البخاري (25) ومسلم (1599) ] .
فإذا خشع القلب خشع السمع والبصر والرأس والوجه ، وسائر الأعضاء ، وما ينشأ منها ، حتى الكلام .. "
ثم قال :
" وأصل الخشوع الحاصل في القلب إنما هو من معرفة الله ، ومعرفة عظمته وجلاله وكماله ؛ فمن كان بالله أعرف ، فهو له أخشع .
وتتفاوت القلوب في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له ، وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع ؛ فمن خاشع لقوة مطالعته لقرب الرب من عبده ، واطلاعه على سره وضميره ، المقتضي للاستحياء من الله تعالى ومراقبته في الحركات والسكنات .
ومن خاشع لمطالعته لجلال الله وعظمته وكبريائه ، المقتضي لهيبته وإجلاله .
ومن خاشع لمطالعته لكماله وجماله ، المقتضي للاستغراق في محبته ، والشوق إلى لقائه ورؤيته .
ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه وعقابه ، المقتضي للخوف منه .
وهو سبحانه جابر القلوب المنكسرة لأجله ، فهو سبحانه وتعالى يتقرب من القلوب الخاشعة له ، كما يتقرب ممن هو قائم يناجيه في الصلاة ، وممن يعفر له وجهه في التراب بالسجود ، وكما يتقرب من وفده وزوار بيته الوافدين بين يديه ، المتضرعين إليه في الوقوف بعرفة ، ويدنو ويباهي بهم الملائكة ، وكما يتقرب عباده الداعين له ، السائلين له ، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار ، ويجيب دعاءهم ، ويعطيهم سؤلهم ، ولا جبر لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة " انتهى .
"الذل والانكسار للعزيز الجبار" ( ضمن رسائل ابن رجب 1/290، 293) .
وأما ما أشار إليه السائل من تخيله للكعبة في صلاته ، فلا نعلم لذلك أصلا ، ولا يظهر أن في ذلك التخيل ما يعين على الخشوع الحقيقي في الصلاة ، وكم ممن يكون في صحن الكعبة ، ويشاهده أمامه رأي العين ، ثم هو يصلي كأنه يصلي في سوقه ، لا يعرف للخشوع طعما .
وحديث أبي هريرة السابق بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان وعرَّفه بأنه " أن تعبد الله كأنك تراه " ولم يقل " كأنك ترى الكعبة " .
والله أعلم