تريد الخطيب الأول ووالدها يريد غيره
أنا فتاة في سن الزواج ، وقد تقدم لي شاب من حوالي العام ، وقد وافقنا عليه ، ووافق والدي عليه أيضاً ، ولكن طلبنا منه تأخير الإجراءات من كتاب وزواج حتى أنهي دراستي الجامعية ، وهو ينتظرني حتى أنهيها ، ولكن الآن والدي يريد أن يزوجني بشاب غيره ، ليس أفضل منه لا ديناً و لا خلقاً ، بعد أن التزمنا بكلمة مع ذلك الشاب الذي ارتضينا دينه وخلقه ، وأنا صراحة لا أريد إلا الزواج بمن خطبني أولاً ووافقنا عليه ، فما عساي أن أفعل الآن ؟
الجواب
الحمد لله.
الحمد لِلَّه
أولا :
من الأمور العظام التي تحدث بين الناس ، التساهل في أمر الخطبة على خطبة الغير .
فمع أنهم يسمعون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لاَ يَخطِبْ عَلَى خِطبَةِ
أَخِيهِ إِلاَّ أَنْ يَأذَنَ لَهُ ) رواه البخاري (5142) ومسلم
(1412)
إلا أنك تجدهم يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيجترؤون على الخطبة وقد
علموا بأمر الخطبة السابقة ، وكذلك تجد بعض الأولياء يعين على ذلك المنكر باستقبال
الخطيب الثاني وبقبوله في كثير من الأحيان .
فأي توفيق يرجون ! وأي سعادة يؤملون ! وهم يريدون أن يبدؤوا زواجهم بمعصية عظيمة ،
ظُلم فيها الخطيب الأول واعتُدي على حقه فيها .
وقد نص أهل العلم على حرمة خطبة المسلم على خطبة أخيه المسلم إذا حصل الإيجاب
والقبول أو الميل نحو الخطيب الأول .
يقول النووي في "شرح مسلم" (9/197) :
" هذه الاحاديث ظاهرة في تحريم الخطبة على خطبة أخيه ، وأجمعوا على تحريمها اذا كان
قد صُرح للخاطب بالإجابة ، ولم يأذن ولم يترك " انتهى .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى" (32/7) :
عن رجل خطب على خطبته رجل آخر فهل يجوز ذلك ؟
فأجاب :
، ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يحل للرجل
أن يخطب على خطبة أخيه ) ولهذا اتفق الأئمة الأربعة في المنصوص عنهم وغيرهم من
الأئمة على تحريم ذلك .
وإنما تنازعوا في صحة نكاح الثاني على قولين :
أحدهما : أنه باطل كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين .
والآخر : أنه صحيح كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى ، بناء على أن
المحرم هو ما تقدم على العقد وهو الخطبة ، ومن أبطله قال إن ذلك تحريم للعقد بطريق
الأولى .
ولا نزاع بينهم في أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله ، والإصرار على المعصية مع العلم بها
يقدح في دين الرجل وعدالته وولايته على المسلمين " انتهى .
ويقول الشيخ الفوزان حفظه الله "الملخص الفقهي" (2/262-263) :
" وبعض الناس لا يبالي بذلك ، فيقدم على خطبة المرأة وهو يعلم أنه مسبوق إلى خطبتها
، وأنها قد حصلت الإجابة ، فيعتدي على حق أخيه ، ويفسد ما تم من خطبته ، وهذا محرم
شديد التحريم ، وحري بمن أقدم على خطبة امرأة وهو مسبوق إليها مع إثمه الشديد أن لا
يوفق وأن يعاقب . فعلى المسلم أن يتنبه لذلك ، وأن يحترم حقوق إخوانه المسلمين ;
فإن حق المسلم على أخيه المسلم عظيم ; لا يخطب على خطبته ، ولا يبيع على بيعه ، ولا
يؤذيه بأي نوع من الأذى " انتهى .
ثانيا :
لا يجوز لوالدك قبول طلب الخطيب الثاني ولا إجابته ، فضلا عن حرمة إحضار خطيب آخر ،
إلا إن فعل ذلك لعذر شرعي ، كأن يمرض الخطيب الأول بمرض خطير ، أو تظهر عليه علامات
الفسق ونحو ذلك ، أما إذا لم يكن ثمة موجب شرعي لفسخ خطبة الأول ، فالواجب الالتزام
بها .
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله "مجموع الفتاوى" (10/43) :
" أما بالنسبة لأب المرأة فلا يحل له أن يقبل خطبة الرجل الأخير وهو قبل من الأول ،
ما لم يكن هناك موجب شرعي " انتهى .
بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا ينبغي للقاضي أن يعقد نكاح الثاني أبدا ، لأنه قد
اعتدى على حق غيره ، فيجب أن يرجع الحق إلى أهله .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى" (29/285) في معرض الحديث عن حق الخاطب
الأول :
" وَإِذَا قِيلَ : هُوَ ( يعني الخاطب الثاني ) غَيَّرَ قَلْبَ الْمَرْأَةِ عَلَيَّ
!
قِيلَ : إنْ شِئْت عَاقَبْنَاهُ عَلَى هَذَا ؛ بِأَنْ نَمْنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ
تِلْكَ الْمَرْأَةِ ، فَيَكُونُ هَذَا قِصَاصًا لِظُلْمِهِ إيَّاكَ . وَإِنْ شِئْت
عَفَوْت عَنْهُ فأنفذنا نِكَاحَهُ " انتهى .
ثالثا :
أما نصيحتي لك أختي الكريمة ، فألخصها بكلمة واحدة " الحوار " .
فبالحوار الهادئ الهادف يتمكن المرء من مواجهة كل مشكلة تعترض حياته ، وبه يتوصل
إلى إقناع الآخرين بوجهة نظره ، أو على الأقل بتقبلها واحترامها .
ومحاورة الوالد تقتضي منك إظهار كل التقدير والاحترام ، كما تقتضي منك إظهار
عقلانية راجحة ، وتفهم كامل لأمور المعاش وحياة الناس .
كثيرا ما يفقد الناس مكتسباتهم ، ويحرمون من الخير الذي كان قريبا منهم ، بسبب ضعف
معاني قيم الحوار والمشورة والاحترام من حياتهم ، وهي مهارات تتطلب من المرء معالجة
ومصابرة وتدريبا كي يرتقي بها إلى المستوى المطلوب .
ولا يمنعنَّك الحياء عن مصارحة والدك برغبتك ورأيك ، فذلك حق لك كفله لك الشرع
المنزل من الله سبحانه وتعالى ، والمصارحة بين الأبناء والآباء من أركان السعادة
الأسرية ، يتم بها التفاهم وتبادل التقدير ، وبغيرها توغر الصدور ، وتحمل النفوس ما
لا تحتمل ، وقد يؤدي الكتمان إلى عواقب وخيمة .
واعلمي - أختي الكريمة - أن والدك حريص عليك ، رفيق بك ، يرجو لك الخير ، وإن كان
يبدي حزما وصرامة ، إلا أنه – إن شاء الله – سيرجع إلى حكم الشرع ويرضى به .
فيجب أن تُذَكِّرِي والدك بحرمة الخطبة على خطبة الغير ، وحرمة إخلاف الوعد ،
ومساعدة المعتدي على اعتدائه – إن كان الخاطب الثاني يعلم بوجود الخطبة الأولى - ،
فإن لم تجدي في نفسك الكفاءة بتذكيره ، فاطلبي ممن يتمكن من ذلك ممن يحترمهم والدك
ويقتنع بمشورتهم أن ينصحه ويذكره بوجوب الالتزام بشرع الله ، وأن الله سبحانه
وتعالى لن يوفق زواجا فيه اعتداء على حق الخاطب الأول .
ولا تترددي في اختيارك ، إذ لا شك أن صاحب الدين والخلق هو الحقيق بالتزويج دون
غيره ، إلا أن الرفق مفتاح كل خير ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَن
يُحرَمِ الرِّفقَ يُحرَمِ الخَيرَ )
رواه مسلم (2592)
، ويقول : ( إِنَّ الرِّفقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ ، وَلاَ يُنزَعُ
مِن شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ) رواه مسلم (2594)
، ويتأكد الأمر بالرفق حين يتعلق الأمر بأحد الوالدين ، فقد أمر الله سبحانه وتعالى
بحسن صحابتهما ولو كانا على الشرك ، فما الظن حين يكونان مسلمين حريصين على
أبنائهما ؟!
فعليك بهذه الوصية النبوية .
أسأل الله لك التوفيق والسعادة والخير في الدنيا والآخرة .
والله أعلم .