له عدة أسئلة متعلقة بوفاة ابنه
لقد توفي ابني الكبير رحمه الله غرقاً في البحر ، وحينما صاح إخوته طلباً للنجدة وقفت واسترجعت ثم ذهبت إليه ولكني وجدته قد فارق الحياة ، وكدت أن ألحق به لو لا أن الله أنجاني من الغرق فخرجت مذهولا وأصيح في الناس طلباً للنجدة ، ثم أخذت أدعو على الأولاد الذين كانوا معه بان الله يضيعهم كما ضيعوا ابني ، ثم إن الله ربط على قلبي حينما أخرجناه من البحر وذهبنا به إلى المستشفي وقد كنت متيقناً من وفاته قبل الذهاب به إلى المستشفى.
و كان عمر ابني رحمه الله تسعة عشر عاماً وخمسة أشهر حين وفاته. علماً أنني حرصت على تربيته تربية صالحة فكان من المحافظين على صلاة الجماعة في المسجد. وكان من طلاب حلقات التلاوة. وقد أدى فريضة الحج متمتعاً هذا العام. وقد صام يوم عاشوراء وكانت وفاته في الحادي عشر من صفر لهذا العام. وقد صلى الفجر يوم وفاته (يوم الخميس) جماعة.
وكل من يعرفه يثني عليه خيرا
فهل أعتبر هذه الأمور من المبشرات؟
وهل تعتبر وفاته يوم الخميس الساعة العاشرة صباحاً من الوفاة ليلة الجمعة؟
وهل علي إثم في دعائي على الأولاد الذين كانوا معه ؟ علماً أنني كنت في حالة ذهول والله المستعان؟
مع يقيني أن الله أرحم به مني إلا أن البكاء يغلبني كلما تذكرته لاسيما وأنني كنت أخاف عليه وكان في السنة الأولى من الجامعة وكنت أخطط له ولمستقبله إلا أن قدر الله كان أسبق ،
فهل في بكائي عليه شيء ؟
وكنت أمنع ابني من دخول الانترنت إلا في أوقات محددة وقد توفي وجواله مقطوع نظير استخدامه في الانترنت وكنت أقسو عليه أحيانا لهذا السبب،
فهل علي إثم في ذلك؟ علماً بأنه كان باراً بي وبوالدته.
هل يعتبر ابني وهو في هذا السن من الذين يشفعون لي ولوالدته؟
وهل أعتبر من المحتسبين إذا استرجعت حال صياح إخوته عليّ طلباً للنجدة ؟
أزور قبره كل يوم جمعة ساعة الإجابة وأدعو له، فهل يعلم بزيارتي أم لا ؟
وهل يشرع لي أن أسلم عليه باسمه كأن أقول السلام عليك يا بني أو السلام عليك يا فلان؟
وقفت له بعض المصاحف والكتب الدينية وسأقوم بمشيئة الله بوقف بئر أو مسجد له ، فهل ينفعه ذلك ؟
وهل لي أجر أنا في هذه الأعمال ( الوقف الثابت والصدقات)؟
أرجو معذرتي على كثرة الأسئلة وجزاكم الله خير الجزاء
الجواب
الحمد لله.
نسأل الله سبحانه أن يغفر لابنك ويرحمه ويرفع درجته ويجمعه بسائر أهله في جنات
النعيم .
وما ذكرته من حاله واستقامته وثناء الناس عليه ، مع موته بالغرق هو من المبشرات
والحمد لله ، فإن الغرق شهادة كما أخبر صلى الله عليه وسلم . روى البخاري (2829)
ومسلم (1914) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرِق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله ).
وروى البخاري (1367) ومسلم (949) عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال :
مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَجَبَتْ . ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا
عَلَيْهَا شَرًّا ، فَقَالَ : وَجَبَتْ . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : مَا وَجَبَتْ ؟ قَالَ : ( هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا
فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ
لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ).
ونسأل الله تعالى أن يجزيك خير الجزاء على تربيتك له ، وسعيك في صلاحه ، وأن يصلح
لك سائر أولادك وأن يجعلهم قرة عين لك ولزوجك .
ثانيا :
ليلة الجمعة تبدأ من غروب شمس يوم الخميس ، فلا تدخل الساعة العاشرة من صباح الخميس
في ليلة الجمعة .
ثالثا :
لا إثم عليك في دعائك على الأولاد حال ذهولك ، ولا في بكائك على ولدك عند تذكره ،
وقد روى البخاري (1303) ومسلم (2315) في قصة وفاة إبراهيم بن نبينا صلى لله عليه
وسلم ، قال أنس : ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ
بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَذْرِفَانِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَقَالَ : يَا ابْنَ عَوْفٍ ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ
ثم قال : ( إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلَا نَقُولُ
إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ
لَمَحْزُونُونَ ) .
رزقنا الله وإياك الصبر واحتساب الأجر .
ولا إثم عليك في التشديد عليه في دخول الإنترنت ، بل هذا من حسن التربية ، وإدراك
المسئولية .
رابعا :
ثبت في السنة أن الصبيان يشفعون في آبائهم يوم القيامة ، ومن ذلك :
عن أبي حسان قال : قلتُ لأَبِي هُرَيْرَةَ : إنَّه قَدْ مَاتَ لِي ابنانِ ، فَمَا
أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ بِحَدِيْثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ
مَوْتَانَا ؟
قالَ : نَعَمْ ، صِغَارُهُم دَعَامِيْصُ الجَنَّةِ ، يَتَلَقَّى أَحَدُهُم أَبَاهُ
- أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ - فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ ، - أَوْ قَالَ بِيَدِهِ - كَمَا
آخُذُ أَنَا بِصَنَفَةِ ثَوْبِكَ هذا ، فَلا يَتَنَاهَى حتى يُدخِلَه اللهُ
وَأَبَاهُ الجَنَّةَ . رواه مسلم (2635)
.
والدعاميص : جمع ( دُعْمُوص ) ، أَيْ صِغَار أَهل الجنة , وَأَصْل الدُّعْمُوص
دُوَيْبَّة تَكُون فِي الْمَاء لَا تُفَارِقهُ , أَيْ أَنَّ هَذَا الصَّغِير فِي
الْجَنَّة لَا يُفَارِقهَا .
وَقَوْله ( بِصَنِفَةِ ثَوْبك ) : أي طرف ثوبك .
ولا يتناهى : أي لا يتركه .
لكن من بلغ تسعة عشر عاما لا يعد صغيرا .
وثبت أن الشهيد يشفع في سبعين من أقاربه ، فعن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة من دمه
، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على
رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة
من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقاربه )
رواه الترمذي ( 1663 ) وابن ماجه ( 2799 ) وصححه
الألباني في صحيح الترمذي .
وسبق أن الغريق شهيد ، فيرجى لمن مات بالغرق أن ينال ثواب الشهيد ، ويشفع في سبعين
من أقاربه .
خامسا :
المقصود بالاحتساب هو احتساب الأجر عند الله تعالى ، وعدم الجزع عند حلول المصيبة ،
والصبر عند الصدمة الأولى كما قال النبي صلى الله وسلم ، فمن بلغه ما يسوءه فاسترجع
وصبر واحتسب رجي له الأجر والثواب عند الله تعالى ، وقد روى البخاري (6424) عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا
قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه : " الْمُرَاد بِاحْتَسَبَهُ : صَبَرَ عَلَى
فَقْده رَاجِيًا الْأَجْر مِنْ اللَّه عَلَى ذَلِكَ "
سادسا :
تخصيص زيارة القبور بيوم الجمعة لا أصل له ، فلا تحرص على ذلك ، وزره كلما تيسر من
غير تحديد وقت معين .
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : زيارة المقابر هل تختص بيوم معين كالعيدين
والجمعة أو في وقت معين من اليوم أما أنها عامة؟ وماذا يجاب عما ذكر ابن القيم رحمه
الله في كتاب الروح من أنها تزار في يوم الجمعة ؟ وهل يعلم الميت بزيارة الحي له ؟
ثم أين يقف الزائر من القبر ؟ وهل يشترط أن يكون عنده أم يجوز ولو كان بعيداً عنه ؟
فأجاب : " زيارة المقابر سنة في حق الرجال ؛ لأنها ثبتت بقول النبي صلى الله عليه
وسلم وفعله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة )
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يزوروها. ولا تتقيد الزيارة بيوم معين، بل
تستحب ليلاً ونهاراً في كل أيام الأسبوع ، ولقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله
عليه وسلم خرج إلى البقيع ليلاً فزارهم وسلم عليهم . والزيارة مسنونة في حق الرجال
، أما النساء فلا يجوز لهن الخروج من بيوتهن لزيارة المقبرة ، ولكن إذا مررن بها
ووقفن وسلمن على الأموات بالسلام الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا
بأس به ؛ لأن هذا ليس مقصوداً ، وعليه يحمل ما ورد في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي
الله عنها ، وبه يجمع بين هذا الحديث الذي في صحيح مسلم والحديث الذي في السنن أن
الرسول عليه الصلاة والسلام (لعن زائرات القبور). وأما تخصيص الزيارة بيوم الجمعة
وأيام الأعياد فلا أصل له ، وليس في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على
ذلك .
وأما هل يعرف من يزوره فقد جاء في حديث صححه ابن عبد البر وأقره ابن القيم في كتاب
الروح : (أن من سلم على ميت وهو يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه فرد عليه
السلام).
أما أين يقف الزائر ؟ نقول : يقف عند رأس الميت مستقبلاً إياه ، فيقول : السلام
عليك ورحمة الله وبركاته ، اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه ، ويدعو له بما شاء
ثم ينصرف ، وهذا غير الدعاء العام ، الذي يكون لزيارة المقبرة عموماً، فإنه يقول:
السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين
منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا
تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم " انتهى من
"اللقاء الشهري" (2/8).
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله : عند زيارة القبور هل يشرع للزائر أن يصل إلى القبر
الذي يقصد زيارته ؟
ج: يكفي عند أول القبور ، وإن أحب أن يصل إلى قبر من يقصد زيارته ويسلم عليه فلا
بأس.
س: هل يعرف الميت من يزوره ؟
ج: جاء في بعض الأحاديث ( إذا كان يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه
السلام ) ولكن في إسناده نظر ، وقد صححه ابن عبد البر رحمه الله.
س: هل الموتى يعلمون بأعمال أقاربهم من الأحياء ؟
ج: لا أعلم في الشرع ما يدل على ذلك " انتهى
من "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (13/170).
والحديث الذي أشار إليه الشيخ ، ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (4493)
ولفظه : ( ما من عبد يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه
السلام )
سابعا :
يشرع للزائر أن يسلم على الميت باسمه ، فيقول : السلام عليك يا فلان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقد كان الصحابة يسلمون على النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند قبره ، وقد كان ابن عمر يقول : السلام عليك يا رسول
الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت . رواه مالك عن نافع عنه ،
ورواه أحمد وغيره " انتهى من "الرد على
البكري" (1/256).
ثامنا :
يجوز أن توقف لصالح ابنك مصاحف أو كتبا دينية ، أو بئرا أو مسجدا ، وذلك من العمل
الصالح الذي يمتد به الثواب ، ويعظم به الأجر .
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء : لي ابن وبنت توفيا رحمهما الله، وعندي قطعة
أرض، هل يجوز أن أوقف لكل واحد منهما من كامل مالي عمارة هذه الأرض بيتين لكل واحد
بيتا يكون ريعه يصرف لهما في أضحية وحج وأعمال البر بنظر الوكيل والثواب والأجر
لهما؟ كما أن عندي بيتا أوقفته وقد أشركتهم في الثواب، ولكن أريد هذه الأرض أقسمها
وأعمرها لكل واحد بيت خاص له، علما أن الورثة غير راضين بذلك، ويقولون: إنه لا يجوز
، أرجو إفتائي جزاكم الله خيرا.
فأجابوا : " إذا كان الأمر كما ذُكر جاز وقف الأرض المذكورة لابنك وابنتك المتوفين،
وصرف ريعها بعد عمارتها في أعمال الخير من الحج والأضحية والصدقة، وجعل ثواب ذلك
لهما " انتهى
.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (16/116)
وإذا فعلت ذلك رُجي لك الثواب أيضا
، لأنه هذا من الإحسان والبر والصدقة والمعروف .
وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى .
والله أعلم .