موقفنا من أب يريد أن تسافر الأسرة لدول سياحية والأم ترفض ذلك
يضغط الأولاد كثيراً على الوالدين للسفر إلى الخارج كما يفعل الكثير من الأقارب ، وقد يلين الوالد لرغبتهم ، وترفض الأم ؛ خشية على أولادها وبناتها المراهقين من الفتن ؛ لأن كثيراً من الدول التي الإسلامية والعربية تنتشر فيها المعاصي بأنواعها ، والمشكلة : أن الأبناء قد زهدوا في السفر إلى مكة والسياحة الداخلية ، ويقولون لوالديهم : مللنا ولن نسافر معكم ، سافروا واتركونا عند الجدة أو الأخوال .
الوالد يحمِّل الأم مسؤولية الموقف ، ويتهمها بالغيرة ، والأم تخشى على أبنائها ، وتخشى أن تكون سبباً في ردة فعل معاكسة يكرهون بسببها التدين ، أو أن ينفلتوا بعد أن يكبروا في السفر لوحدهم ، وخاصة أنهم يقولون لها : قد كنتِ تسافرين مع أهلك فلم تحرميننا من السفر ؟
فهل تطيعهم مع الالتزام بالقدر الممكن من المحافظة ؟ أم تصر على موقفها ؟
الجواب
الحمد لله.
قد أحسنت الأم غاية الإحسان في رأيها وموقفها في حفظ أولادها ذكوراً وإناثاً من
التلوث بأدواء الفساد والاختلاط والعري الموجود – وللأسف – بكثرة في كثير من الدول
الإسلامية التي تُقصد للسياحة .
والأولى أن يكون الأب بصفها ويتخذ الموقف نفسه ؛ حتى لا يكون تضاد في العملية
التربوية لأولادهم ، وحتى لا يتخذ أولئك الأولاد موقفاً سلبيّاً من والدتهم بتأييد
من والدهم .
ويمكن أن يتم إقناع الأولاد بالخطر العظيم الموجود في الدول التي تُقصد للسياحة ،
ويُبيَّن لهم أن من الواجبات الشرعية الملقاة على عاتق والديهم : حفظهم من الشر
والمكر والكيد والفساد الذي يُدار من دوائر الفساد تجاه الأسرة المسلمة ؛ لتفكيك
أوصالها ، ولتشتيت شملها ، بالتجرؤ على سلطة الوالد ، وبالاحتقار للعفاف والمروءة
التي تدعو إليها الأمهات الفضليات .
وقد وسَّع الله على المسلمين في بلادهم بأن حباهم أماكن جميلة يمكن للأسرة المحافظة
أن تقصدها من غير أن ترى ما يؤذي سمعها وبصرها ، وهي متنوعة ما بين جبال شاهقة ،
وأراضٍ خصباء ، وأجواء ذات طقس معتدل .
وعلى رأس ذلك كله : يمكنكم قصد الديار المقدسة في مكة المكرمة ، أو المدينة النبوية
، بكل يسر وسهولة.
ولا ينبغي للأسرة المسلمة أن تجعل السفر جزء من حياتها ، وليُعوَّد الأولاد على
استغلال فرص العطلة بالاشتراك في برامج نافعة ، أو دراسة مباحة .
ونحن لا نستطيع أن نحرِّم ما أحل الله ، ولا أن نضيِّق واسعاً على أحد ، لكن كل
عاقل يرى ما وصلت إليه أحوال المسلمين في بلدانهم : لا يشك لحظة أن الواجب على
القائمين على تربية أولادهم أن يحتاطوا في حفظ الأمانة التي أوكلهم الله بحفظها .
وها نحن نرى الفساد قد وصل إلى البيوت المغلقة الحصينة من خلال المدارس والقنوات
والمجلات والجيران والأقرباء ، فكيف مع كل هذا يكون التساهل في الذهاب إلى أماكن
المنكر والفساد بأرجلنا وبتمويل من أموالنا ؟! .
وليكن في ضرب الأمثلة للأولاد نصيب في إقناعهم بالعدول عن فكرة السفر لتلك الأماكن
في تلك الدول السياحية ، وذلك بذكر وقائع حقيقية لمن رجع بمرض الأيدز ، ومن رجع جثة
هامدة بسبب جرعة مخدرات أو شرب خمر ، ومن رجعت وقد فقدت شرفها ، أو تعلقت برجل في
تلك الديار فتركت أهلها من أجله ، ومن رجع تاركاً للصلاة ، وهكذا في سلسلة من
المنكرات والفساد مما لا يمكن إحصاؤه بسهولة ، ولا يعني رجوع بعض الأسر سالمة من
الشر والفساد أن يكون هذا هو الأصل ، لا ، بل هذا من حفظ الله لهم ، وأما هم فقد
فعلوا من الأسباب ما يكسبهم به الآثام ويجر عليهم الويلات .
وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن ننأى عن الفتن وأماكنها ، وأن لا يغتر
الإنسان بما عنده من إيمان ويقين ؛ فإن الفتن الآن والشهوات أقوى من أن يتحداها
المسلم الضعيف ، وها هم المتساقطون على الطريق قد كثروا ومنهم من رجع لصوابه فاهتدى
ومنهم من ظلَّ على ضلاله فهلك .
عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ( مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ
الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا
يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ).
رواه أبو داود ( 4319 ) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال ابن الجوزي - رحمه الله - :
واحذر - رحمك الله - أن تتعرض لسبب لبلاء ، فبعيد أن يسلم مقارب الفتنة منها ، وكما
أن الحذر مقرون بالنجاة : فالتعرض للفتنة مقرون بالعطَب ، وندر من يسلم من الفتنة
مع مقاربتها على أنه لا يسلم من تفكر ، وتصور ، وهمٍّ . " انتهى من " ذم الهوى " (
ص 126 ) .
وقال ابن القيم – رحمه الله - :
" فما استُعين على التخلص من الشرِّ بمثل البُعد عن أسبابه ومظانِّه .
وههنا لطيفة للشيطان لا يتخلص منها إلا حاذق ، وهي : أن يُظهر له في مظانِّ الشرّ
بعض شيء من الخير ويدعوه إلى تحصيله فإذا قرب منه : ألقاه في الشبكة " انتهى من "
عدة الصابرين " ( ص 50 ) .
وختاماً :
لا بد من التأكيد على ضرورة تأييد الأب لزوجته في موقفها ، وبما أن الأولاد قد رضوا
بأن يبقوا عند جدتهم أو أخوالهم فهذا يعني أنهم أهل خير وطاعة ، فيستثمر هذا الأمر
فيهم ، ويوجهون إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم في العطل المدرسية .
وقد يكون إصراركم على عدم السفر لتلك البلدان مما يجعلهم يغيرون رأيهم فيقتنعون
بالسياحة الداخلية ، وبالذهاب للحرمين ، وهي نعمة لو يعلمون كم من الملايين
يتمنونها وتحترق قلوبهم عندما يرون الصلاة تنقل على الهواء مباشرة من هناك : لكان
ذلك مما يجعلهم يغيرون نظرتهم وفكرهم حول السفر لتلك البقاع الطاهرة المقدسة .
وأما كلام العلماء في المسألة فينظر في جواب السؤالين : (
52845 ) ، و (
82187 ) .
والله أعلم .