الحمد لله.
ومما يقوي هذا ويؤكِّده أن حسنات المسلم وسيئاته التي دفنت معه وقت السؤال لن تقف عند حدِّها ذاك ! فالحسنات قد تزيد بما خلَّفه وراءه من صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له ، والسيئات قد تزداد بما تركه وراءه من سنَّة سيئة وسيئات جارية .
ومما يقويه أيضاً أن الحسنات
قد تنقص يوم الحساب لانشغال ذمة فاعلها بحقوق للناس ، فقد يلقى الله تعالى المسلم
ربَّه بحسنات صلاته وصيامه وحجه فتذهب كلها لمن قذفه وشتمه وأكل ماله ، وما يلقى
ربَّه به من سيئات قد تزداد بأخذ سيئات ممن ظلمه فتلقى عليه ، وحديث " المفلس "
دليل واضح وبيِّن على هذا الأمر ، ولله تعالى الحكَم البالغة حيث لم يجعل الميزان
في أول موت العبد ، بل جعل الميزان آخر المطاف ليكون بعده الفلاح أو الخسارة ،
وانظر تفصيل هذا ببيان أكثر جواب السؤال رقم (
127242 ) .
ثانياً:
يذهب الإشكال عند الأخ السائل – أيضاً – بسؤاله : هل رؤية العبد لمقعده من الجنة في
قبره يمتنع معه أن يعذَّب في قبره على بعض ذنوبه ؟!
وجواب هذا السؤال : أنه بالطبع لا يمتنع ؛ وذلك لأن الوعيد المترتب على العذاب في
البرزخ ليس هو بالضرورة الوعيد المترتب على العذاب في نار جهنم ، ولأن رؤية المقعد
من الجنة هو باعتبار أنه ليس كافراً فحسب ، ولذا فقد يرى العبد مقعده من الجنة في
قبره ويعذَّب على بعض ذنوبه ، ولذا فقد ذهب الأكثر من العلماء إلى أن حديث رؤية
المقعد في القبر إنما هو باعتبار الكفر، فيرى مقعده في النار ، أو الإسلام ، فيرى
مقعده في الجنة ؛ وأما حال المسلم العاصي ، فلا تعرض لذكره في الحديث
ومما يؤكد هذا : أن رؤية المسلم لمقعده تكون بعد سؤال الملكين عما يعلم به إسلام
العبد من كفره ، وليس يكون هذا على ما جاء به من حسنات ، ففي الصحيحين من حديث أنس
بن مالك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ
الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ
لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ :
مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ
وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ قَدْ
أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا ) .
ومثله يقال في أخذ الكتاب
باليمين عند تطاير الصحف ؛ فإن هذا الأخذ باليمين باعتباره مسلماً لا كافراً وليس
يعني أنه لن يعذَّب أو لن يدخل النار على ذنوب اقترفها .
وانظر تفصيلا أوفى لكل ذلك في جواب السؤال رقم (
121628 ) .
ثالثاً:
ومما يزيل الإشكال – كذلك – معرفة أن أهوال القيامة وكربها وشدائدها مما يكفِّر
الله تعالى به الذنوب ، فهذا الذي رأى مقعده من الجنة قد يكون مستحقّاً للعذاب
بسيئات راجحة فغفرت له بما يراه في قبره من الضغطة والفتنة وبما يراه من أهوال
القيامة وشدائدها ، وانظر جواب السؤال رقم (
13693 ) .
على أنه ، بعد ذلك كله ،
ينبغي الانتباه إلى أن لكل موطن فزعته التي تذهل العبد عن حاله التي هو فيها ، فكيف
بحاله التي كان عليها من قبل ؟
فقد يفزّع المؤمن ثم يؤّمن ليشهد المنة ، وقد يفزع لما كان عليه من التقصير في أمر
الله ، ويكون فزعه تكفيرا لسيئاته .
والأنبياء عليهم السلام يقول كل منهم يوم القيامة – كما في حديث الشفاعة - : نفسي
نفسي نفسي . فكيف بمن دونهم ؟
وقال الله تعالى عن الكافرين : ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ
مَرْقَدِنَا ) يس/ 52 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم ؛ لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد " .
انتهى من " تفسير ابن كثير" (6 /581) .
والله أعلم