شكوك في تاريخ تدوين الفقه
منذ أن اعتنقتُ الإسلام بدأت الوساوس والتساؤلات ترد إلى ذهني واحدة تلو الأخرى ، فأريد توضيحاً للآتي : من أين أتى الفقهاء التابعون لعصر الصحابة بهذا الفقه المدوّن في كتبهم ، ما الأسباب التي دفعتهم إلى تأليف هذه المؤلفات ، ولم لم يؤلف الصحابة أنفسهم في هذا الشأن إذا كان الأمر بهذه الأهمية ، إذا كان الصحابة أعلم الناس بالشريعة - وهم بلا شك كذلك - فلماذا لم يؤلّفوا ، اعلم أن هذه وساوس ، فكيف أتعامل معها ؟ .
إنني أعيش بمفردي حيث لا يوجد علماء ، هل يلزمني البحث عن أهل العلم وسؤالهم عن هذه التفاصيل والتساؤلات ؟ ، أم الأفضل أن أتناسى هذا كله ، وأنصرف إلى أمور أخرى ، وهل آثم إن تركت السؤال عنها ؟ ، فالله تعالى يقول : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
الجواب
الحمد لله.
لا نكتمك الحقيقة أننا في استغراب بالغ من هذا السؤال الذي أوردته على وجه الشبهة
أو على وجه الوسواس على حد تعبيرك ، فالعلوم الإنسانية كلها هي نتاج اجتهادات فكرية
وعلمية بشرية تتراكم عبر العصور ، وتمر بمراحل من التمحيص والتدقيق والمراجعة ، ولا
تكاد تدون إلا بعد عشرات السنين من تداولها في أذهان الناس ومحاوراتهم ، فتدوين
العلم مرحلة متأخرة دائما على نشأة العلم نفسه ، وفي كل زمان تدون علوم جديدة ، بل
وتنبثق تخصصات حديثة لم تكن مؤطرة ولا مقننة في العهد القديم .
وتأمل سريع في التخصصات العلمية والإنسانية الحديثة التي تخصص لها مساقات دراسية في
جامعات اليوم يدلك على هذه الحقيقة ، فهل من المعقول أن تتناسى هذا البناء الطبيعي
للعلوم ، وتلك التركيبة المنطقية لتطورها ، ثم تشتغل بتساؤل لا يقدم ولا يؤخر لتبحث
عن سر تدوين هذا العلم هذا العام دون غيره ، ألا ترى أن هذا التساؤل أو " الوسواس "
يمكن أن يرد في جميع السنوات وفي جميع العلوم أيضا ، ففي كل سنة يدون فيها علم جديد
أو يفتتح فيها تخصص حديث تقول : لماذا لم يتم ذلك في عهد مضى وسبق .
إن أحدا من الباحثين في " تاريخ العلوم " لم يرد إلى ذهنه أن يكون " التاريخ " عقدة
باعثة على الشك والتردد ، بل باعثة على التأمل في العوامل التي بها نضج العلم وبلغ
بها مرحلة التدوين ، حتى التدوين نفسه يمر بمراحل عديدة ، ويلاحظ الباحثون فيها
التقدم والتطور والتخصص أكثر فأكثر ، لذلك نحن ننصحك بالقراءة في الموسوعات العلمية
التي تحدثت عن جميع العلوم ، لترى التشابه العام في حركتها عبر التاريخ ، وتنظر كيف
أن علوم اللغة واللسانيات على سبيل المثال لم تكن مدونة رغم أهميتها وارتباطها
بحياة الناس اليومية ، ثم بدأ التدوين بأشكال بدائية تقتصر على شيء من الأشعار
والرسوم البسيطة ، ثم يبدأ تقنين قواعد اللغة بشكل مجمل أيضا ، لتقرر بعد ذلك
تفريعات علوم اللغة إلى قواعد النحو والصرف والبلاغة والمفردات والشعر والنثر
وغيرها.
ولعل الاطلاع على المراجع الآتية يفيد في فهم فلسفة العلوم : " موسوعة تاريخ العلوم
العربية " من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية ، " قصة الحضارة " لويل ديورانت ،
" تاريخ العلم " لجورج سارتون ، " دراسات في تاريخ العلوم عند العرب " للدكتور أحمد
عطية ، " أضواء على تاريخ العلوم عند المسلمين " للدكتور محمد محاسنة .
لذلك نقول لك أيضا ، إن علوم الفقه بدأ تدوينها في عهد الصحابة الكرام أيضا ، تمثل
ذلك في بعض الصحف القديمة المختصرة التي دون فيها الصحابة أحكاما فقهية تناقلوها عن
النبي صلى الله عليه وسلم ، ككتاب أبي بكر الصديق في أمور الصدقات والزكوات ، وكتاب
عمرو بن حزم في الديات (ص/139) ، وصحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي فيه بعض
أحكام الحرم وأحكام الديات وغيرها ، وقد كان يحتفظ بها في قراب سيفه (ص/127) ،
وكتاب أنس بن مالك رضي الله عنه في سنة عمر (ص/102) ، ومنسك جابر بن عبدالله في
الحج (ص/104) ، وكتاب الحسن بن علي في قول أبيه في خيار البيع (ص/107) ، وكتاب زيد
بن ثابت في فريضة الجد لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (ص/108) ، وهو أول من ألف في
الفرائض ، وصحيفة عبدالله بن عمرو في المغازي ، وصحيفته الصادقة أيضا (ص/124) ،
وكتاب معاذ بن جبل في الصدقات (ص/140) ، وهكذا يمكن الاطلاع عليها كلها – وبجانبها
أرقام الصفحات - في كتاب الدكتور محمد مصطفى الأعظمي " دراسات في الحديث النبوي
وتاريخ تدوينه " (ص/92-142) .
كما إن نظرة فاحصة في الدواوين التي نقلت آثار الصحابة الكرام ، كمصنف عبد الرزاق ،
ومصنف ابن أبي شيبة ، و "المحلى " لابن حزم ، و" السنن الكبرى " للبيهقي ، وغيرها
تدلك على كثير من الفقه والأحكام الشرعية التي كان الصحابة يتناقلونها ويتدارسونها
فيما بينهم ، وأن من جاء بعدهم من التابعين وأتباعهم إنما استقوا عنهم ، وحملوا ما
سمعوه منهم فأضافوا إليه ، وقرروه بأوجه شتى ، وحققوا ما فيه ، وفرعوا عليه ، ليؤخذ
فيما بعد إلى بطون الكتب والمدونات الفقهية الكبيرة .
ثم إن من المعلوم أيضا أن الأعلمية لا ترتبط بالتأليف لزوما ضروريا ، فالأعلم كثيرا
ما ينحو منحى العمل والتعليم وبث الوعي في نفوس الناس ، فيطغى ذلك على جانب التأليف
والكتابة ، خاصة في القرون الأولى التي تذهب فيها الأجيال الأولى وقودا لإنجاح
الدعوة والفكرة ، وتلك حكمة نراها ماثلة في جميع دعوات الأنبياء السابقين ، لا
يشتغل أصحابهم بالكتابة بقدر ما يشتغلون في التعليم ونشر الدين ، في عصور لم تكن
الكتابة والتأليف وسيلة كبيرة الجدوى ، لضعف النشر وعدم توفر أدوات الكتابة
والقراءة لكل أحد ، فمن يحاكم ذلك الزمان بما في زماننا من وسائل المعرفة الحديثة
فقد أبعد النجعة في موازينه ومقاييسه .
وما سبق جميعه يدفعك إلى بذل مزيد من العناية لتحصيل أسباب العلم الشرعي ، وذلك
بالقراءة الفاحصة ، وتنويع مصادر المعرفة ، والارتباط بأهل العلم والفكر الذين
تستعين بهم في الفهم والتحليل والجواب على المشكلات .
من المراجع المفيدة " المدخل الفقهي العام " للشيخ مصطفى الزرقا (1س/173-202)، "
خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي " للشيخ عبدالوهاب خلاف .
والله أعلم .