الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024
العربية

شكوك في تاريخ تدوين الفقه

184835

تاريخ النشر : 18-11-2012

المشاهدات : 20674

السؤال


منذ أن اعتنقتُ الإسلام بدأت الوساوس والتساؤلات ترد إلى ذهني واحدة تلو الأخرى ، فأريد توضيحاً للآتي : من أين أتى الفقهاء التابعون لعصر الصحابة بهذا الفقه المدوّن في كتبهم ، ما الأسباب التي دفعتهم إلى تأليف هذه المؤلفات ، ولم لم يؤلف الصحابة أنفسهم في هذا الشأن إذا كان الأمر بهذه الأهمية ، إذا كان الصحابة أعلم الناس بالشريعة - وهم بلا شك كذلك - فلماذا لم يؤلّفوا ، اعلم أن هذه وساوس ، فكيف أتعامل معها ؟ . إنني أعيش بمفردي حيث لا يوجد علماء ، هل يلزمني البحث عن أهل العلم وسؤالهم عن هذه التفاصيل والتساؤلات ؟ ، أم الأفضل أن أتناسى هذا كله ، وأنصرف إلى أمور أخرى ، وهل آثم إن تركت السؤال عنها ؟ ، فالله تعالى يقول : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .

الجواب

الحمد لله.


لا نكتمك الحقيقة أننا في استغراب بالغ من هذا السؤال الذي أوردته على وجه الشبهة أو على وجه الوسواس على حد تعبيرك ، فالعلوم الإنسانية كلها هي نتاج اجتهادات فكرية وعلمية بشرية تتراكم عبر العصور ، وتمر بمراحل من التمحيص والتدقيق والمراجعة ، ولا تكاد تدون إلا بعد عشرات السنين من تداولها في أذهان الناس ومحاوراتهم ، فتدوين العلم مرحلة متأخرة دائما على نشأة العلم نفسه ، وفي كل زمان تدون علوم جديدة ، بل وتنبثق تخصصات حديثة لم تكن مؤطرة ولا مقننة في العهد القديم .
وتأمل سريع في التخصصات العلمية والإنسانية الحديثة التي تخصص لها مساقات دراسية في جامعات اليوم يدلك على هذه الحقيقة ، فهل من المعقول أن تتناسى هذا البناء الطبيعي للعلوم ، وتلك التركيبة المنطقية لتطورها ، ثم تشتغل بتساؤل لا يقدم ولا يؤخر لتبحث عن سر تدوين هذا العلم هذا العام دون غيره ، ألا ترى أن هذا التساؤل أو " الوسواس " يمكن أن يرد في جميع السنوات وفي جميع العلوم أيضا ، ففي كل سنة يدون فيها علم جديد أو يفتتح فيها تخصص حديث تقول : لماذا لم يتم ذلك في عهد مضى وسبق .
إن أحدا من الباحثين في " تاريخ العلوم " لم يرد إلى ذهنه أن يكون " التاريخ " عقدة باعثة على الشك والتردد ، بل باعثة على التأمل في العوامل التي بها نضج العلم وبلغ بها مرحلة التدوين ، حتى التدوين نفسه يمر بمراحل عديدة ، ويلاحظ الباحثون فيها التقدم والتطور والتخصص أكثر فأكثر ، لذلك نحن ننصحك بالقراءة في الموسوعات العلمية التي تحدثت عن جميع العلوم ، لترى التشابه العام في حركتها عبر التاريخ ، وتنظر كيف أن علوم اللغة واللسانيات على سبيل المثال لم تكن مدونة رغم أهميتها وارتباطها بحياة الناس اليومية ، ثم بدأ التدوين بأشكال بدائية تقتصر على شيء من الأشعار والرسوم البسيطة ، ثم يبدأ تقنين قواعد اللغة بشكل مجمل أيضا ، لتقرر بعد ذلك تفريعات علوم اللغة إلى قواعد النحو والصرف والبلاغة والمفردات والشعر والنثر وغيرها.
ولعل الاطلاع على المراجع الآتية يفيد في فهم فلسفة العلوم : " موسوعة تاريخ العلوم العربية " من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية ، " قصة الحضارة " لويل ديورانت ، " تاريخ العلم " لجورج سارتون ، " دراسات في تاريخ العلوم عند العرب " للدكتور أحمد عطية ، " أضواء على تاريخ العلوم عند المسلمين " للدكتور محمد محاسنة .
لذلك نقول لك أيضا ، إن علوم الفقه بدأ تدوينها في عهد الصحابة الكرام أيضا ، تمثل ذلك في بعض الصحف القديمة المختصرة التي دون فيها الصحابة أحكاما فقهية تناقلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ككتاب أبي بكر الصديق في أمور الصدقات والزكوات ، وكتاب عمرو بن حزم في الديات (ص/139) ، وصحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي فيه بعض أحكام الحرم وأحكام الديات وغيرها ، وقد كان يحتفظ بها في قراب سيفه (ص/127) ، وكتاب أنس بن مالك رضي الله عنه في سنة عمر (ص/102) ، ومنسك جابر بن عبدالله في الحج (ص/104) ، وكتاب الحسن بن علي في قول أبيه في خيار البيع (ص/107) ، وكتاب زيد بن ثابت في فريضة الجد لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (ص/108) ، وهو أول من ألف في الفرائض ، وصحيفة عبدالله بن عمرو في المغازي ، وصحيفته الصادقة أيضا (ص/124) ، وكتاب معاذ بن جبل في الصدقات (ص/140) ، وهكذا يمكن الاطلاع عليها كلها – وبجانبها أرقام الصفحات - في كتاب الدكتور محمد مصطفى الأعظمي " دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه " (ص/92-142) .
كما إن نظرة فاحصة في الدواوين التي نقلت آثار الصحابة الكرام ، كمصنف عبد الرزاق ، ومصنف ابن أبي شيبة ، و "المحلى " لابن حزم ، و" السنن الكبرى " للبيهقي ، وغيرها تدلك على كثير من الفقه والأحكام الشرعية التي كان الصحابة يتناقلونها ويتدارسونها فيما بينهم ، وأن من جاء بعدهم من التابعين وأتباعهم إنما استقوا عنهم ، وحملوا ما سمعوه منهم فأضافوا إليه ، وقرروه بأوجه شتى ، وحققوا ما فيه ، وفرعوا عليه ، ليؤخذ فيما بعد إلى بطون الكتب والمدونات الفقهية الكبيرة .
ثم إن من المعلوم أيضا أن الأعلمية لا ترتبط بالتأليف لزوما ضروريا ، فالأعلم كثيرا ما ينحو منحى العمل والتعليم وبث الوعي في نفوس الناس ، فيطغى ذلك على جانب التأليف والكتابة ، خاصة في القرون الأولى التي تذهب فيها الأجيال الأولى وقودا لإنجاح الدعوة والفكرة ، وتلك حكمة نراها ماثلة في جميع دعوات الأنبياء السابقين ، لا يشتغل أصحابهم بالكتابة بقدر ما يشتغلون في التعليم ونشر الدين ، في عصور لم تكن الكتابة والتأليف وسيلة كبيرة الجدوى ، لضعف النشر وعدم توفر أدوات الكتابة والقراءة لكل أحد ، فمن يحاكم ذلك الزمان بما في زماننا من وسائل المعرفة الحديثة فقد أبعد النجعة في موازينه ومقاييسه .
وما سبق جميعه يدفعك إلى بذل مزيد من العناية لتحصيل أسباب العلم الشرعي ، وذلك بالقراءة الفاحصة ، وتنويع مصادر المعرفة ، والارتباط بأهل العلم والفكر الذين تستعين بهم في الفهم والتحليل والجواب على المشكلات .
من المراجع المفيدة " المدخل الفقهي العام " للشيخ مصطفى الزرقا (1س/173-202)، " خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي " للشيخ عبدالوهاب خلاف .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب