الحمد لله.
ورغم ذلك كله ، فإننا نقول في مثل حالتك : إذا وجدت حرجا مع والدتك ، وخشيت أن يتفاقم الأمر بينكما لأجل إزالة الصليب ، فاكتفي بتغطيته حال الصلاة بثوب ، فقد قال كثير من الفقهاء بأن الصور والصلبان المستورة تحت الثياب لا تأثير لها على كراهة الصلاة . كما يقول ابن نجيم الحنفي رحمه الله : " لو كان فوق الثوب الذي فيه صورة ، ثوبٌ ساترٌ له : فإنه لا يكره أن يصلي فيه ؛ لاستتارها بالثوب الآخر " انتهى من " البحر الرائق " (2/29) .
فإن وجدتِ حرجا أيضا مع والدتك في هذا الأمر ، فلا حرج عليك في الصلاة في مكان
فيه صليب ، خاصة إذا كنت تطمعين بالإحسان إليها واستمرار المحبة بينكما : أن يلين
قلبها لك ، ولدينك ، ومن يدري لعل الله أن يشرح صدرها للإيمان .
وإنما قلنا ذلك لأسباب عدة :
أولا :
أن حال الحاجة تبيح فعل المكروه ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ في
شأن ما ينهى عنه المحرم من اللباس ـ : " إنْ كَانَ مَكْرُوهًا؛ فَعِنْدَ الْحَاجَةِ
تَزُولُ الْكَرَاهَةُ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/203) .
ثم إن هذا الفعل ، ونحوه ، لا يبقى مكروها في حق من فعله لأجل هذا العارض.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" المكروه تبيحه الحاجة ؛ لأن درجة المكروه دون درجة المحرم ، المحرم منهي عنه على
سبيل الإلزام بالترك ، ويستحق فاعله العقوبة ، والمكروه منهي عنه على سبيل الأولوية
، ولا يستحق فاعله العقوبة ؛ ولهذا يباح عند الحاجة ... ؛ إذا احتاج إليه : ارتفعت
الكراهة إطلاقا ، وصار يتناول هذا الشيء على وجه المباح " .
انتهى باختصار من "شرح منظومة أصول الفقه وقواعده" (62-63) .
ثانيا :
ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الصلاة في الكنيسة ، ولو وجدت فيها الصور والصلبان ،
ولا شك أن شأن الغرفة في منزل والدتك أقل شأنا من الكنيسة ، فالبيوت لا يكون فيها
عادة ، ما يكون في الكنائس من الصلبان وشعائر الكفر ، وليست مختصة بشعائر الكفار
وعباداتهم ، فالرخصة فيها أوسع .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" لا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة ، رخص فيها الحسن ، وعمر بن عبد العزيز ،
والشعبي ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز ، وروي أيضا عن عمر ، وأبي موسى .
وكره ابن عباس ومالك الكنائس ؛ من أجل الصور .
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وفيها صور . ثم هي داخلة في قوله
عليه السلام : ( فأينما أدركتك الصلاة فصل ، فإنه مسجد ) " انتهى من " المغني "
(2/57).
ويقول أيضا رحمه الله :
" وفي شروط عمر رضي الله عنه على أهل الذمة : أن يوسعوا أبواب كنائسهم وبيعهم ،
ليدخلها المسلمون للمبيت بها ، والمارة بدوابهم . وروى "ابن عائد" في "فتوح الشام"
أن النصارى صنعوا لعمر رضي الله عنه حين قدم الشام طعاما ، فدعوه ، فقال : أين هو ؟
قالوا : في الكنيسة . فأبى أن يذهب وقال لعلي : امض بالناس فليتغدوا . فذهب علي رضي
الله عنه بالناس فدخل الكنيسة وتغدى هو المسلمون ، وجعل علي ينظر إلى الصور وقال :
ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل " انتهى .
ثم علق ابن قدامة قائلا : " وهذا اتفاق منهم على إباحة دخولها وفيها الصورة " انتهى
من " المغني " (8/113)، وانظر : "الإنصاف" للمرداوي (1/496) ، "المحلى" لابن حزم
(1/400)
وللتوسع تنظر الفتوى رقم : (147007).
ثالثا :
إن إزاحتكم الصليب أو إزالته تصرف في مال الآخرين بغير إذن ، وإزالة للمنكر باليد
رغما عن مالك الصليب ، وهي الوالدة ، ومثل هذا التصرف ينبغي أن يناط بالمصلحة ،
ونحن لا نرى مصلحة من ذلك ، بل المفسدة غالبة ، أو متحققة بغضب الوالدة ، وكرهها
لهذا التصرف ، وعدها له اعتداء على مقدساتها الدينية ، وتصرفا غير لائق منكم في
منزلها بما ينافي آداب الزياة التي علمنا إياها الشرع الحنيف .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم – وهو في مكة قبل أن يهاجر إلى المدينة – يصلي
عند الكعبة وحولها مئات الأصنام التي يعبدها كفار قريش ، ولم يقم بكسر أي منها أو
إزاحتها عن أماكنها ؛ إذ إن الأمر لم يكن في يده ، والبيت الحرام ليس تحت سلطانه ،
فلم يشرع لنا التغيير باليد في مثل هذه الحالات ؛ لما فيه من مفسدة تربو على
المصلحة .