الحمد لله.
ثانيا :
وأما كون قائد الدراجة يحاسب على ذلك ، فمن المتقرِّر في الشريعة أنَّ جميعَ العباد
محاسَبون على أعمالهم يومَ القيامة ، خيرِها وشرِّها ، وأنَّ الله تعالى سيجازيهم
عليها بالثواب أو العقاب ؛ كما قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) الأنبياء/ 47 .
لكن مَن تاب من عمله السيّء ، وصدقَ في توبته ؛ فإنَّ الله تعالى يقبل التوبة عن
عباده ؛ كما قال سبحانه: ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) الشورى/25 .
فقائد الدراجة الناريَّة إذا كان قد تعدى السرعة المسموح لمثلها بأن يقود بها ، أو التي يتمكن منها مثله من التحكم في دراجته ، بحيث تسبَّب ذلك في وقوع هذا الحادث ؛ فهو آثِمٌ على عدوانه ، وتسبُّبِه في قتل نفس مسلمة ؛ فإن تابَ وأنابَ تابَ الله عليه ، ويلزمه لقبول التوبة إضافة إلى الندم : العزم على عدم العود إلى هذا الفعل.
والكفَّارة الملزَم بها
والتي أوجبَها الله تعالى عليه هي أيضًا : " توبة من الله على عباده ورحمة بهم ،
وتكفير لِمَا عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز ، كما هو واقع كثيرًا للقاتل
خطأ" .
انتهى من " تفسير السعدي " (ص 192) ؛ كما قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ
يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا
) ، إلى أن قال: ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) النساء/ 92 .
ثالثا :
لا تعارض بين أن يكون هذا الحادث حصل بقضاء الله وقدره ، فالعبد يحاسَب على عمله
الذي باختياره ، وهو هنا تفريطه في السير بسرعة زائدة ، وكون الله علم هذا وقدره من
الأزل : لا ينفي وقوع هذا العمل بفعل الإنسان، إما باختياره عن إرادة تامة لما
يأتيه من المعاصي والمخالفات ، وإما بتركه الواجب عليه من الاحتياط والتحرز ، أو
فعله ما لا يحق له ، كقيادته بالسرعة الزائدة ، أو سيره في طريق مخالف ، وكل هذا
عمل العبد وسعيه وكسبه ، يُسْأل عنه في الدنيا ، ويحاسب عليه عند الله .
مع أن مثل هذا ليس قتلا متعمدا للنفس ، ولا يتعلق به شيء من أحكام القتل العمد ،
الذي هو كبيرة عظيمة بنفسه ، ولا يعامل معاملته في الدنيا ، ولا يحاسب حسابه في
الآخرة .
ومن أصول الإيمان بالقدر
أنَّ الله تعالى جعلَ للعبد اختيارًا وقُدرة بهما يكون الفعل ؛ كما قال تعالى: (
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) التكوير/ 28 ، وقال: ( فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاء فَلْيَكْفُرْ) الكهف/ 29 .
وجعلَ عملَ العبد كسبًا له ، ولم يكلِّفه بما لا يستطيع أو يطيق ؛ بل مدحَ
المُحْسِن على إحسانه ، وذَمَّ المُسيءَ على إساءته .
كما قال تعالى : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ
الْيَوْمَ ) غافر/ 17 .
وقال: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا )
الإنسان/ 3 .
وقال: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة/ 286 .
ولولا تقرر هذا الأصل : لبطل الأمر والنهي ، بل بطلت الشرائع والقوانين كلها ، وأوشك من شاء أن يفعل ما شاء ، لا وازع له ولا ضابط ولا مانع ، ولبطل الثواب والعقاب ، وفسد أمر الدنيا والآخرة .
فالعبد إنما يحاسب على عمله الذي عمله في الدنيا ، وكانت له القدرة عليه ، والاختيار له ، وكان بإمكانه أن يفعل ، لو شاء ، ولا يحاسب على قدر الله السابق فيه .
وللاستزادة حول هذا الموضوع
يراجع السؤال رقم : (49039) ، و (49004)
.
والله تعالى أعلم .