الحمد لله.
ثانياً :
الحور العين في الجنة ، من عالم الغيب الذي لا ندركه إلا بالوحي ولا مجال للعقل فيه
.
وقد وردت كلمة ( الحور العين ) في مواضع من القرآن الكريم :
قال الله تعالى : ( كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ) الدخان / 54 .
وقال تعالى : ( مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ
عِينٍ ) الطور /20 .
وقال تعالى : ( وَحُورٌ عِينٌ ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) الواقعة
/22 – 23 .
والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد جاء في عدد من الآيات ذكر صفات أنثوية لهن ما يدل
صراحة على أنهن نساء في الجنة .
قال تعالى : ( وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَّكْنُونٌ ) الصافات /48 – 49 .
وقال تعالى : ( حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) الرحمن / 72 .
وقال تعالى : ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً ، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ،
عُرُبًا أَتْرَابًا ) الواقعة / 35 –37 .
وقال تعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ، حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ،
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ) النبأ /31 - 33 .
وعلى هذا عامة أهل التفسير ـ أيضاً .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى : " يقول تعالى ذكره : كما أعطينا هؤلاء
المتقين في الآخرة من الكرامة ؛ بإدخالنا لهم الجنات ؛ وإلباسنا لهم فيها السندس
والإستبرق ، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم أيضا فيها حوراً من النساء ؛ وهن النقيات
البياض ، واحدتهن : حوراء .
وكان مجاهد يقول ... والحور: اللاتي يَحارُ فيهنَّ الطرفُ ، بادٍ مُخُّ سُوقِهنَّ
من وراءِ ثيابِهن ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهنَّ كالمرآة ، من رقة الجلد وصفاء
اللون ".
ثم قال الطبري : " وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل " .
انتهى من" تفسير الطبري " (21/65 - 66) .
فالحاصل من كل ما سبق : أنه لا يوجد في هذه الآيات ، ولا في الآيات السابقة عن
الأزواج المطهرة ما يمكن أن يستدل به على وجود رجال حور عين للنساء في الجنة ، ولا
أختلف أهل العلم في تفسير ذلك أصلاً ؛ بل كلهم مجمعون على أن ذلك وصف نساء المؤمنين
في الجنة ، ولا مدخل لذلك في وصف الرجال .
ثالثاً :
فإن قيل : ما نثبته من الأجور للرجال نثبت مثله للنساء ولا نفرق بينهما .
فالجواب :
1- الحور العين من الأمور الغيبية التي لا يمكن إدراكها بمجرد العقل ، فلو لم
يذكرها الله تعالى في القرآن الكريم لما تصورناها ، والقرآن وصفها بصفات الأنوثة ،
فمن يقول بوجود رجال حور عين في الجنة ، يكون قد أثبت شيئاً غيبياً دون نص من الوحي
؛ وهذا قول على الله بغير علم ، والله تعالى يقول : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) الأعراف /33.
2- نعم ، يثبت للنساء أجر عملهن الصالح ، وجزاء سعيهن ، كما يثبت للرجال ، لكن لا
يبعد أن يختص كل جنس منهما بنعيم يخصه ، أو أجر خاص يناسب جنسه .
وقد دلت نصوص عديدة على أن النساء المسلمات في الجنة ، يزوجن بالرجال المسلمين من
أهل الدنيا ، لكن بعد أن يدخلهم الله الجنة في أحسن وأبهى صورة .
قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ، سَلَامٌ عَلَيْكُم
بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) الرعد / 22 - 24 .
وقال تعالى أيضا : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا
وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) غافر /8
.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : " وقوله : ( وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها ؛ من
الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم
، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص للأعلى عن درجته ، بل
امتنانًا من الله وإحسانا " انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (8/136) .
واستدل بعضهم بقوله تعالى : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
تُحْبَرُونَ ) الزخرف / 70 .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : " وفي أزواجهم قولان : أحدهما : زوجاتهم ،
والثاني : قرناؤهم " انتهى من " زاد المسير في علم التفسير " (7/328) .
وذكر نحواً من ذلك أيضاً : القرطبي في " تفسيره " ( 19/78 ) ، وصديق حسن خان، في "
فتح البيان في مقاصد القرآن " (12/372) .
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : ذكر للرجال الحور العين في الجنة
، فما للنساء؟
فأجاب بقوله : " يقول الله - تبارك وتعالى - في نعيم أهل الجنة : ( وَلَكُمْ فِيهَا
مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ
رَحِيمٍ ) ، ويقول - تعالى - : ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ
الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
ومن المعلوم أن الزواج من أبلغ ما تشتهيه النفوس ، فهو حاصل في الجنة لأهل الجنة ،
ذكوراً كانوا أم إناثاً ، فالمرأة يزوجها الله - تبارك وتعالى - في الجنة بزوجها
الذي كان زوجاً لها في الدنيا ، كما قال الله - تبارك وتعالى -: ( رَبَّنَا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ) " .
انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين " ( 2/51) .
وأما المرأة التي تزوجت في الدنيا عدة مرات ، وكل أزواجها من أهل الجنة ، فقد اختلف
اجتهاد العلماء ، فبعضهم قال : إنها تخير بينهم ، وتختار من كان أحسن خُلقاً .
وبعضهم قال : تكون لآخر أزواجها في الدنيا ، واعتمدوا على ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال : ( المَرْأَةُ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا ) صححه الشيخ الألباني رحمه
الله تعالى في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " ( 3 / 275 ) رقم ( 1281 ) .
وينظر جواب السؤال رقم :(8068) .
أما المرأة التي لم تتزوج في الدنيا ، أو التي لم يكن زوجها من أهل الجنة ، فلم يرد
نص في تعيين زوج مثل هذه المرأة ، لكن هناك بعض الأقوال لأهل العلم في هذه المسألة
يمكن أن يستأنس بها .
قال الألوسي رحمه الله تعالى : " ويعطي الرجل هناك ما كان له في الدنيا من الزوجات
، وقد يضم إلى ذلك ما شاء الله تعالى من نساء مُتْنَ ولم يتزوجن .
ومن تزوجت بأكثر من واحد : فهي لآخر أزواجها ، أو لأولهم إن لم يكن طلقها في الدنيا
، أو تخير فتختار من كان أحسنهم خلقاً معها ، أقوال : صحح جمع منها الأول ، وتعطى
زوجة كافر دخلت الجنة لمن شاء الله تعالى " انتهى من " روح المعاني " (25/136) .
وفي " مجموع فتاوى ومسائل ابن عثيمين " ( 2 / 52 ) :
" وسئل - رعاه الله بمنه وكرمه -: إذا كانت المرأة من أهل الجنة ولم تتزوج في
الدنيا ، أو تزوجت ولم يدخل زوجها الجنة فمن يكون لها ؟
فأجاب قائلا : " الجواب يؤخذ من عموم قوله - تعالى -: ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ
رَحِيمٍ ) ، ومن قوله - تعالى -: ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ
الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).
فالمرأة إذا كانت من أهل الجنة ولم تتزوج ، أو كان زوجها ليس من أهل الجنة : فإنها
إذا دخلت الجنة فهناك من أهل الجنة من لم يتزوجوا من الرجال ، وهم -أعني من لم
يتزوجوا من الرجال- لهم زوجات من الحور ، ولهم زوجات من أهل الدنيا إذا شاءوا
واشتهت ذلك أنفسهم.
وكذلك نقول بالنسبة للمرأة إذا لم تكن ذات زوج ، أو كانت ذات زوج في الدنيا ولكنه
لم يدخل معها الجنة ؛ أنها إذا اشتهت أن تتزوج : فلا بد أن يكون لها ما تشتهيه ،
لعموم هذه الآيات.
ولا يحضرني الآن نص خاص في هذه المسألة ، والعلم عند الله - تعالى - ".
ولمزيد الفائدة ينظر جواب السؤال : ( 149336
) .
والله أعلم .