الحمد لله.
أولا:
المشقة التي تجلب التخفيف في الشريعة على قسمين :
1- الضرورة :
وهي بلوغ الشخص حدا إن لم يتناول المحظور هلك أو قارب الهلاك ، جاء في " المنثور في
القواعد الفقهية " (2 / 319) : " فالضرورة: بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك ،
أو قارب ، كالمضطر للأكل واللبس ؛ بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات ، أو تلف منه
عضو ، وهذا يبيح تناول المحرم " انتهى .
وفي " كشف الأسرار شرح أصول البزدوي " (4 / 398) : " ومعنى الضرورة في المخمصة :
أنه لو امتنع عن التناول يخاف تلف النفس أو العضو ، فمتى أكره بالقتل أو بقطع العضو
على الأكل أو الشرب : فقد تحققت الضرورة المبيحة لتناول الميتة ؛ لأنه خاف على نفسه
أو عضو من أعضائه ، فدخل تحت النص" انتهى.
وعرف المالكية الضرورة بقولهم : " هِيَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ الْهَلَاكِ
، عِلْمًا أَوْ ظَنًّا " .
انتهى من " الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي " (2 / 115) .
وفي " الموسوعة الفقهية الكويتية " (22 / 161) : هي " حَالَةٌ مِنَ الْخَطَرِ أَوِ
الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ تطرأ على المكلف ، تَجْعَلُهُ يَخَافُ مِنْ حُدُوثِ
أَذًى بِالنَّفْسِ ، أَوْ بِالْعِرْضِ ، أَوْ بِالْعَقْل ، أَوْ بِالْمَال ، أَوْ
بِتَوَابِعِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ - عِنْدَئِذٍ - أَوْ يُبَاحُ لَهُ :
ارْتِكَابُ الْحَرَامِ ، أَوْ تَرْكُ الْوَاجِبِ ، أَوْ تَأْخِيرُهُ دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عَنْهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ ، ضِمْنَ قُيُودِ الشرع " انتهى بتصرف
يسير.
والضرورة تبيح الترخص وارتكاب المحظور لا مطلقا ، بل وفق قيود الشرع ، وبرهان ذلك
قوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة/ 173.
ومن أمثلة الضرورة التي تبيح الترخص ، المخمصة المؤدية إلى الهلاك ، فإنها تبيح
الأكل من المحرم ، والإكراه فإنه يبيح التلفظ بكلمة الكفر ، والغصة الشديدة التي
يخشى منها الهلاك فإنها تبيح إساغتها بالخمر ، وقد سبق بيان ذلك والكلام عن ضوابط
الضرورة في الفتوى رقم : (137035).
2- الحاجة :
وتطلق على الافتقار ، وهي حالة من المشقة تطرأ على المكلف بحيث لو لم يتناول
المحظور لم يهلك ، ولكنه يكون في ضيق وجهد ، جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية "
(16 / 247) : " الْحَاجَةُ تُطْلَقُ عَلَى الاِفْتِقَارِ ، وَعَلَى مَا يُفْتَقَرُ
إِلَيْهِ ، وَاصْطِلاَحًا هِيَ - كَمَا عَرَّفَهَا الشَّاطِبِيُّ - مَا يُفْتَقَرُ
إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ ، وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي
الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ ، وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَصْلَحَةِ
، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ ، دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ -
الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ ، وَيَعْتَبِرُهَا الأْصُولِيُّونَ مَرْتَبَةً مِنْ
مَرَاتِبِ الْمَصْلَحَةِ ، وَهِيَ وَسَطٌ بَيْنَ الضَّرُورِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ "
انتهى.
مما سبق يعلم أنه يوجد فرق
بين الضرورة والحاجة ، فالضرورة فوق الحاجة ، جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية "
(16 / 247) : " وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، أَنَّ الْحَاجَةَ
وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ ، فَهِيَ دُونَ الضَّرُورَةِ ،
وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا ، وَلاَ يَتَأَتَّى بِفَقْدِهَا الْهَلاَكُ "
انتهى .
وكما أن الضرورة تبيح الترخص ، فكذلك الحاجة تبيح الترخص أيضا ؛ ولذا ذكر أهل العلم
أن الحاجة ، خاصة كانت أو عامة ، تنزل منزلة الضرورة ، جاء في " الموسوعة الفقهية
الكويتية "(16 / 256) : " الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ أَوِ الْخَاصَّةَ : تُنَزَّل
مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ . وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَاجَةِ عَامَّةً أَنَّ النَّاسَ
جَمِيعًا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا فِيمَا يَمَسُّ مَصَالِحَهُمُ الْعَامَّةَ مِنْ
تِجَارَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَسِيَاسَةٍ عَادِلَةٍ وَحُكْمٍ صَالِحٍ .
وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَاجَةِ خَاصَّةً : أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهَا فَرْدٌ أَوْ
أَفْرَادٌ مَحْصُورُونَ ، أَوْ طَائِفَةٌ خَاصَّةٌ ، كَأَرْبَابِ حِرْفَةٍ
مُعَيَّنَةٍ ، وَالْمُرَادُ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ : أَنَّهَا
تُؤَثِّرُ فِي الأْحْكَامِ ، فَتُبِيحُ الْمَحْظُورَ ، وَتُجِيزُ تَرْكَ الْوَاجِبِ
، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَثْنَى مِنَ الْقَوَاعِدِ الأْصْلِيَّة " انتهى.
ثانيا:
مواطن الرخصة في الشريعة : منه ما هو معلوم محدد ، كالمخمصة فإنها تبيح تناول
المحرم ، وكالسفر ، فإنه يبيح القصر في الصلاة والفطر في الصيام وترك الجمعة ،
وكالمرض فإنه يبيح الفطر في الصيام ، وترك القيام في الصلاة المفروضة ، وكالإكراه
فإنه يبيح التلفظ بكلمة الكفر ، ونحو ذلك .
ومنه ما هو غير محدد ، بل
يختلف باختلاف حاجة كل شخص ، وحاله وظروفه ، وحينئذ فالواجب على الشخص الذي نزلت به
النازلة ، إن لم يكن من أهل العلم : أن يقصد عالما ورعا ، فيستفتيه ، ثم يعمل بما
أفتاه به .
والله أعلم.