الحمد لله.
المشروع لمن كان في بلد أو مكان تظهر فيه المعاصي ، وتنتهك فيه حرمات الله : أن
يتركه ، وينتقل عنه إلى مكان آخر ، أبعد له من ذلك ، وأقوم سبيلا ، وأبعد له من
رؤية محارم الله وهي تنتهك ؛ وهذا أنجى له من ملابسة أهل المعاصي ، ومشاركتهم ،
وأبعد له عن الرضا بحال المعصية ، أو المداهنة فيها .
على اختلاف بين الفقهاء في هذه المشروعية : هل هي على الوجوب ، أو الندب والاستحباب
.
وينظر : " الموسوعة الفقهية " (42/ 190-191) .
روى البخاري (3470) ، ومسلم (2766) عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (
كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا،
فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ
فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟
فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ
أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ
نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا
أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى
أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ
أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ
الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا
بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ
خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ،
فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى
فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ،
فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" فِيهِ : فَضْلُ التَّحَوُّلِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي يُصِيبُ الْإِنْسَانُ فِيهَا
الْمَعْصِيَةَ ، لِمَا يَغْلِبُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، إِمَّا
لِتَذَكُّرِهِ لِأَفْعَالِهِ الصَّادِرَةِ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْفِتْنَةِ بِهَا ،
وَإِمَّا لِوُجُودِ مَنْ كَانَ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَحُضُّهُ عَلَيْهِ ؛
وَلِهَذَا قَالَ لَهُ الْأَخِيرُ ( وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا
أَرْضُ سُوءٍ ) ؛ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّائِبَ يَنْبَغِي لَهُ
مُفَارَقَةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي اعْتَادَهَا فِي زَمَنِ الْمَعْصِيَةِ
وَالتَّحَوُّلُ مِنْهَا كلهَا " انتهى من " فتح الباري لابن حجر" (6/ 517) .
وموطن الشاهد أن الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي : من شأنها أن تجرئ ساكنها على مثل
ما يظهر فيها من المعاصي ، أو ـ على أقل تقدير ـ تسلب من قلبه استقباح مثل تلك
المعاصي ، وضعف إنكارها ، أو انعدامه ؛ بحكم الإلف والعادة ، وهذا أمر معهود مشاهد
.
ولهذا كان المشروع في حق
أخيك أن يدع الإقامة في هذه المدينة ، التي تظهر فيها المعاصي ، وتكثر فيها
العاهرات ؛ صيانة لدينه ، وحفظا لنفسه من الفتن ، فإن الإثم حَوَّاز القلوب ، ولا
أحد يدري من أين تأتيه الفتنة ؟
وأما قوله : إن عمله فيها ؛ فيقال : هذا ليس بعذر له ؛ بل إذا قدر على أن يجد عملا
في مكان آخر ، هو خير له من ذلك ، من غير ضرر زائد عليه : فليس له أن يبقى فيه هذا
المكان .
وإن لم يقدر ؛ فما أكثر من يعملون في مكان ، ويسكنون في غيره ، لسبب أو لأخر ؛ فما
الذي يحمله على البقاء فيه لسكنه ؟!
والواجب على العبد أن يكون
حرصه على دينه ، فوق كل حرص ، وصيانته له ، فوق صيانته لكل شيء سواه .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (170287)
.
والله تعالى أعلم .