الحمد لله.
فإن كنت مُعْدَما لا تقدر
على شيء من نفقات النكاح ، فليس أمامك من خيار إلا الصبر والصوم ، حتى يرزقك الله
سبحانه من فضله ، قال تعالى : ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً
حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) النور/33 .
ولكن الظاهر من كلامك أنك لست بهذه الحالة من الفقر والحاجة ، فأنت تملك مالا لكنه
يُنْفَق كله على والدتك وبعض شؤونك الأخرى ، وهنا ينبغي التأمل والنظر :
فإن كانت والدتك تملك مالاً يكفيها ، ففي هذه الحالة لا تلزمك نفقتها ، وحينئذ
ينبغي أن توفر مالك لزواجك ، بل يتعين ذلك عليك إذا خفت الوقوع في الحرام .
أما إن كانت أمك لا تملك مالا لنفقتها ، ولم يكن هناك من ينفق عليها غيرك ، بحيث
ستتضرر إن تركت الإنفاق عليها ، فهنا تلزمك نفقتها ؛ لأن نفقة الوالدين الفقيرين
واجبة على ولدهما الموسر ، كما سبق بيانه في الفتوى رقم : (111892)
.
والنصيحة لك - في هذه الحالة - أن تحاول أن تجمع بين الحسنيين ، وهما نفقة الأم
والزواج ، وذلك بأن تدَّخر من مالك جزءا ولو يسيرا ، يصلح للمهر وتجهيز أمور الزواج
في أضيق نطاق ، وقد يكون الاقتراض من أهل الخير والإحسان من الأمور المقترحة في هذه
الحالة ، كما سبق بيانه في الفتوى رقم : (83869)
، لكن بشرط ألا تتوسع في ذلك الاقتراض ، بل تقتصر فيه على أدنى ما يمكن ، حتى لا
تحمل نفسك ما لا تطيق ، ولا تشغلها بهم الدين .
ثم عليك بعد ذلك بالمسارعة إلى البحث عن امرأة صالحة زاهدة تبتغي العفاف ، وتصبر
على أحوالك ورعاية أمك ، وسوف تجد إن شاء الله ، من أهل الخير من يعينك على مثل هذا
الزواج المقتصد الميسور ، متى ما عزمت عليه ، وكنت جادا فيه ؛ مهما يكون من أمر
مجتمعك المادي ، فأغلب المجتمعات اليوم كذلك ، لكننا نعلم أيضا : أنه لا يزال يوجد
فيها من يسعى إلى العفاف ، ويرضى بالكفاف ، أو ما يقاربه .
وإياك أن تلتفت إلى المظاهر الدُّنيوية الخدَّاعة التي هي من عمل الجاهلية في تعسير
أمور الزواج باشتراط المهور الغالية ، والسيارات الفارهة ، والمساكن الفاخرة وغير
ذلك ، فكل هذا من عادات الجاهلية ومن تدبير أعداء الله سبحانه ليعسِّروا على الناس
سبيل الزواج الشرعي المباح ، فيسهل عليهم بعد ذلك مواقعة الفواحش والرذيلة التي هي
أيسر شيء في زماننا هذا والعياذ بالله ، مع ما في ذلك من مخالفة هدي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - في تيسير الزواج وتسهيله على مريده ، فقد صح عنه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : (خير النكاح أيسره) . رواه ابن حبان ، وصححه
الألباني في " صحيح الجامع " (3300) ، وقد سبق الحديث عن موضوع المغالاة في المهور
في الفتوى رقم : (87823) .
واعلم أن الراغب في الزواج
يبتغي العفاف موعود بالعون من الله تعالى ، قال تعالى : ( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)النور/32 ، جاء في "
تفسير الطبري " (19 / 166) : " عن ابن عباس ، قوله: ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) قال: أمر الله سبحانه
بالنكاح ، ورغَّبهم فيه ، وأمرهم أن يزوّجوا أحرارهم وعبيدهم ، ووعدهم في ذلك الغنى
، فقال : ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وعن عبد
الله بن مسعود ، قال: التمسوا الغنى في النكاح ، يقول الله: ( إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) " انتهى باختصار.
وفي " تفسير القرطبي " (12 / 241) : " لَا تَمْتَنِعُوا عَنِ التَّزْوِيجِ بِسَبَبِ
فَقْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، " إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ "، وَهَذَا وَعْدٌ بِالْغِنَى لِلْمُتَزَوِّجِينَ طَلَبَ رِضَا
اللَّهِ ، وَاعْتِصَامًا مِنْ مَعَاصِيهِ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْتَمِسُوا
الْغِنَى فِي النِّكَاحِ ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: عَجَبِي مِمَّنْ لَا يَطْلُبُ الْغِنَى فِي النِّكَاحِ " انتهى .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (
ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ : الْمُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ،
وَالْمُكَاتَبُ الَّذِى يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِى يُرِيدُ
الْعَفَافَ ) رواه الترمذى ( 1655 ) ، وقال : حسن ، والنسائى ( 3120 ) ، وابن ماجه
(2518 ) ، وحَّسنه الألباني في "صحيح الترمذي".
وأما حد الشهوة التي يجب على الرجل معها الزواج ، فهو أن يخشى مواقعة الزنا ، أو مقدماته من النظر أو التقبيل ونحوهما ، وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم : (5511).
والله أعلم.