حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ليس فيه ترك الأسباب
قرأت الفتاوى المتعلقة بالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وتبين لي مفهومه بالإجمال ، غير أنه ما زال عندي إشكال في قضية التوكل .
فهل نحن مأمورون من خلال هذا الحديث بترك الأسباب ؟
فعلى حد علمي أن التوكل الحقيقي معناه بذل الجهد في هذه الدنيا مع وضع الثقة في الله تبارك وتعالى ، والتحلي بالصبر ، أليس كذلك ؟ أم أن في هذا الحديث استثناءً هنا ؟
قلتم في بعض الفتاوى : إن المذكورين في الحديث لا يطلبون المساعدة من أحد ، فما معنى هذا ؟ هل المعنى أنه لا ينبغي لنا توظيف الموظفين في مكاتبنا ، والاستغناء عن الخدم لصنع الطعام وعدم أخذ الاقتراض عند الحاجة ، وعدم طلب المال من الوالدين ، وعدم طلب النصح من الغير..الخ ؟
وما نوع المساعدة الجائزة والمكروهة في ضوء هذا الحديث ؟ لأننا إن توقفنا عن طلب المساعدة من الغير فستتوقف الحياة بلا شك ، إذ إن الخلق مسخرون لبعضهم ! وقد رأينا كيف أن إبراهيم عليه السلام طلب مساعدة ابنه إسماعيل عند بناء الكعبة . كما رأينا أن الصحابة فهموا الحديث على عدم طلب الرقية فحسب ، لا على كل شيء ،ـ وماذا يفعل العبد كي يكون من هؤلاء السبعين ألفاً ؟
الجواب
الحمد لله.
تناول الأسباب سنة من سنن الله في هذا الخلق ، تركبت من حين خلق الله عز وجل آدم من
طين لازب على هيئة جوفاء لا تتماسك ، فجُبل حينئذ على الضعف والفقر والحاجة إلى ما
حوله من مفردات الطبيعة التي هيئها الله عز وجل له ، بل وأباحها لجنسه كي تكون خطته
التي يذللها في سبيل عيشه وسيره مسارات العبودية المتنوعة .
ولكي لا يستغرق الإنسان في هذه الحياة السببية ، وتغره خدعة " الإلف " التي هي من
أوهام النفس البشرية ، فتركن إلى الأسباب وتنسى المسبب الخالق جل وعلا ، جاءت
رسالات الأنبياء تذكر البشر بهذه الحقيقة القديمة ، وتسلك مسارات الروح والعقل
والقلب جميعا في سبيل تعليق البشر بالخالق جل وعلا ، تحت عنوان " التوكل "، الحالة
الأصيلة التي تغفل عنها النفس بفعل سحر " العادة "، والمشاهدات اليومية لتأثير
الأسباب .
هذه قراءة موجزة لقضية التوكل والأخذ بالأسباب في الإسلام ، تؤيدها العشرات من
الأدلة الشرعية والنصوص القرآنية التي تأمر بالضرب في الأرض ، وطلب أسباب المعاش
فيها ، مع حسن التوكل على الله سبحانه ، كما قال جل وعلا : ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) النحل/41-42. فجمع بين السبب ( الهجرة في الله
)، وبين الصبر والتوكل .
وقال سبحانه وتعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ . وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ )
الشعراء/214-217. فأمر بالتوكل بعد مجموعة من الأسباب ، تتمثل في الدعوة إلى الله ،
والتواضع ، والبراءة من الشرك .
وقال عز وجل : ( قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) الملك/29، فقدَّم الإيمان ( الذي
هو العلم والعمل )، ثم أردفه بالتوكل .
وهكذا أيضا حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، لا يبعد
فهمه عن هذا الإطار الذي رسمته لنا محكمات الشريعة الإسلامية كلها ، ولا يصح
الاستدلال به على ترك الأسباب والانقطاع عن الفاعلية ، بل أول صفات عباد الرحمن
الذين يختصهم الله عز وجل هي التأثير بالخير بين الناس ، وهذا لا يتم إلا من خلال
منظومة الأسباب التي هيئها الله سبحانه في هذا الكون .
كل ذلك يختصره قوله عليه الصلاة والسلام : ( وعلى ربهم يتوكلون )، فهي حالة هؤلاء
الدائمة ، متوكلين على الله سبحانه ، والتوكل لا يتحقق حتى يجتمع إليه ركنه الأول
المهم ، الذي هو الأخذ بالأسباب ، فإن لم يتم هذا الركن انقلب التوكل إلى تواكل
وعجز وخلل في مفهوم الإيمان .
ومن هنا فقد فسر العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يَسْترقون ) بما لا يحيد
عن هذه المعاني ، ولا يدعو إلى ترك الأسباب :
فقال بعضهم: إن المقصود ترك الرقية الشركية ، أو التي لا تعتمد الأذكار الشرعية ،
وإنما يعرفها العرب من كلامهم ، ويظنون فيها السببية ، وهي في واقع الأمر ليست سببا
ولا شفاء . فضلا عن اشتمال بعض رقى العرب على كلمات شركية أو مشتبهة .
نقل ابن بطال في " شرح صحيح البخاري " (9/ 405) عن أبي الحسن بن القابسي أنه قال :
" معنى ( لا يسترقون ) يريد الاسترقاء الذي كانوا يسترقونه في الجاهلية عند كهانهم
، وهو استرقاء لما ليس في كتاب الله ، ولا بأسمائه وصفاته ، وإنما هو ضرب من السحر
، فأما الاسترقاء بكتاب الله والتعوذ بأسمائه وكلماته فقد فعله الرسول وأمر به ،
ولا يخرج ذلك من التوكل على الله ، ولا يرجى في التشفي به إلا رضا الله ".
وحمل آخرون من العلماء الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطبعها ، ولا
يفوضون الأمر إلى الله تعالى ، فمن لم يكن منهم استحق دخول الجنة بغير حساب ولا
عذاب . وهذا توجيه الطبري والمازري كما في " المعلم بفوائد مسلم " (1/346) .
حتى من قال من العلماء إن معنى ( لا يسترقون ) أي : لا يطلبون الرقية من غيرهم ، لم
يقيسوا الأسباب الأخرى على الرقية ، بل قالوا إن الأسباب لا يجوز التواكل في تركها
، اللهم إلا طلب الرقية ، فهو مستثنى في هذا الحديث ، كحال طلب الدعاء أيضا ؛
فالأولى بالمسلم أن لا يطلب الدعاء من غيره ، ولا يطلب الرقية من غيره ، والرقية من
جنس الدعاء ، فشملهما حكم واحد ، فيعتمد فيها على نفسه ، لأن الله عز وجل ليس بينه
وبين عباده واسطة .
وحينئذ يتبين أن الأمر يتعلق بتحقيق التوحيد في قلب العبد المسلم ، وليس بترك
الأسباب ، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله – كما في " جامع المسائل - المجموعة
الثامنة " (1/ 120)-: " ذكر سبحانه الراقي دون الطبيب الذي يسقي الدواء ونحوه ؛ لأن
تعلق النفوس بالرُّقَى أعظم ، ولهذا قال في صفة المتوكلين : ( هم الذين لا يسترقون
ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون ) ".
وهذا هو توجيه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، أيضا ، كما في " لقاء الباب المفتوح "
(55/ 17، بترقيم الشاملة آليا) .
وكذلك حال العلماء الذين قالوا : إنه يستحب عدم سؤال الناس شيئا ، لم يريدوا بذلك
ترك الأسباب بالكلية والتواكل ، وإنما أرادوا ذم المبالغة في التعلق بالناس ، إلى
حد الغلو في الاعتماد عليهم ، حتى تضعف الثقة بالله سبحانه ، بل وتضعف الثقة بالنفس
، ليصير كل شيء مرتبطا بالخلق ، فتعيش النفس ضعيفة أسيرة لمن هو أقوى وأغنى ممن
حولها من الناس ، وهذا أمر لا يختلف العقلاء في ذمه والتنفير عنه ، حتى من غير
المسلمين ، فالبرامج التنموية كلها تسعى في خلق جيل واثق بنفسه ، مستند إلى قدراته
، وليس عالة على غيره ، وفي الوقت نفسه يحسن إدارة الأسباب ، ويتقن الأخذ بها على
الوجه المتكامل مع ثقته بنفسه . ونحن المسلمين نقول : وقبل ذلك كله وبعده : حسن
التوكل على الله سبحانه .
ولا ننكر وقوع الفهم الخاطئ لهذا الحديث لبعض المتقدمين ، حتى استدل به الكلاباذي
(ت380هـ) في " التعرف لأهل التصوف " (ص/24) على ترك الأسباب ، قائلا : " فلم يرجعوا
إلى الأسباب ، ثقة بالله عز وجل ، وتوكلا عليه ورضا بقضائه ".
ولكن ما سبق جميعه يبين بطلان هذا الاستدلال ، ويوضح الوجه الصحيح لفهم الحديث ،
الذي يتسق مع أدلة الشريعة كلها .
يقول ابن الجوزي رحمه الله :
" عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده ، عالما بأنه لا يقدر على جلب
نفعي ودفع ضري سواه ، ثم قمت أتعرض بالأسباب ، فأنكر عليَّ يقيني ، وقال : هذا قدح
في التوكل!
فقلت : ليس كذلك ، فإن الله تعالى وضعها من الحِكَم .
وكان معنى حالي : أن ما وضعتَ لا يفيد ، وأن وجوده كالعدم .
وما زالت الأسباب في الشرع ، كقوله تعالى : ( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ
أَسْلِحَتَهُمْ ) النساء/102 .
وقال تعالى : ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ
فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ) يوسف/47
وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين ، وشاور طبِيبَين ، ولما خرج إلى
الطائف لم يقدر على دخول مكة حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال : أَدخُلُ في جوارك .
وقد كان يمكنه أن يدخل متوكلا بلا سبب .
فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب ، كان إعراضي عن الأسباب دفعا للحكمة .
فإذا لم أشرب ما يوافقني ، ثم قلت : اللهم عافني . قالت لي الحكمة : أما سمعت : (
اعقلها وتوكل ) [رواه الترمذي (2517) ، وحسنه الألباني في " صحيح الترمذي " ]
اشرب ، وقل : عافِني ، ولا تكن كمن بين زرعه وبين النهر كف من تراب ، تكاسل أن
يرفعه بيده ، ثم قام يصلي صلاة الاستسقاء ، وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على
التجريد ، وإنما سافر على التجريد لأنه يجرب ربه عز وجل ، هل يرزقه أو لا ، وقد
تقدم الأمر إليه: ( وَتَزَوَّدُوا ) البقرة/197 ، فقال : لا أتزود . فهذا هالك ،
قبل أن يهلكه .
فالحذر الحذر من أفعال أقوام دققوا فمرقوا عن الأوضاع الدينية ، وظنوا أن كمال
الدين بالخروج عن الطباع والمخالفة للأوضاع ، ولولا قوة العلم والرسوخ فيه لما قدرت
على شرح هذا ، ولا عرفته ، فافهم ما أشرت إليه ، فهو أنفع لك من كراريس تسمعها ،
وكن مع أهل المعاني لا مع أهل الحشو " انتهى من " صيد الخاطر " (ص86) .
وللمزيد ينظر : (21368) ، (139092) ، (217325)
.
والله أعلم .