الحمد لله.
ثانيا :
على القول بصحة الحديث ، فإن لفظة " أنا بريء ... " لا يلزم منها كفر من صدرت في
حقه ؛ فقد ورد استعمالها في ذنوب لا يكفر صاحبها بالإجماع .
فورد في صحيح البخاري ( 1296 ) ومسلم ( 104 ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال
: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَرِئَ مِنَ
الصَّالِقَةِ وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ ).
(الصالقة) التي ترفع صوتها عند المصيبة .
(الحالقة) التي تحلق شعرها عند المصيبة .
(الشاقة) التي تشق ثيابها عند المصيبة .
وهذه المعاصي ليست كفراً ، ولكن هذه الكلمة (أنا بريء ...) تدل على أن هذا الفعل
محرم.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى في معنى الحديث الوارد في السؤال :
" ومعنى براءته منه له وجهان :
أحدهما: البراءة من دمه وغرامة ديته .
والثاني: البراءة منه في الدين والإيمان ، على جهة التعظيم والإنكار لمقامه بينهم
كقوله : ( من سل علينا السلاح فليس منا ) .
وهذا ومثاله كثيرًا ما يجيء في ألفاظه صلى الله عليه وسلم ، ومقصده منها : التفظيع
والإكبار لشأن هذا الأمر حتى يجتنب ، وأن الإنسان إذا علم أنه بمخالفته ُيتبرأ منه
ترك ذلك ، وفيه دليل على أنه إذا كان أسيرا في أيديهم وأمكنه الخلاص منهم لا يحل له
المقام بينهم " انتهى من "الشافي في شرح مسند الشافعي " ( 5/181 ) .
وسبب التحريم هو ما تجرّه
هذه المساكنة والإقامة من المفاسد ، كما تدل عليه قصة الحديث .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" الله تعالى جبل بني آدم ، بل سائر المخلوقات ، على التفاعل بين الشيئين
المتشابهين ، وكلما كانت المشابهة أكثر ؛ كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم ، حتى
يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط .
ولما كان بين الإنسان وبين الإنسان مشاركة في الجنس الخاص ، كان التفاعل فيه أشد
...
ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم ، واكتساب بعضهم أخلاق بعض
بالمعاشرة والمشاكلة ...
كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى ، هم أقل إيمانا من
غيرهم ممن جرَّدَ الإسلام ...
وكل ما كان سببا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه ، كما دلت عليه الأصول
المقررة " انتهى من " اقتضاء الصراط المستقيم " ( 1 / 487 - 488 ) .
والحاصل :
أن الإقامة في بلد الكفر ليس لها حكم واحد بل بحسب حال المقيم وبلد الإقامة .
وقد أشار إلى هذا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى ، حيث قال : "
حديث : ( مَن جَامَعَ الْمشرِك أَو سَكن مَعَه فهوَ مِثله ) وحديث : ( أَنا بَرِيءٌ
مِن مسلِم بَات بَين ظهرَاني الْمشرِكِين ) هذان الحديثان هما من الوعيد الشديد
المفيد غلظ تحريم مساكنة المشركين ومجامعتهم ، كما هما من أَدلة وجوب الهجرة من بلد
الشرك إلى بلد الإسلام ، وهذا في حق من لم يقدر على إظهار دينه .
وأَما من قدر على إظهار دينه : فلا تجب عليه الهجرة ، بل هي مستحبة في حقه .
وقد لا تستحب إذا كان في بقائه بين أَظهرهم مصلحة دينية من دعوة إلى التوحيد والسنة
وتحذير من الشرك والبدعة علاوة على إظهاره دينه " انتهى من " فتاوى ورسائل الشيخ
محمد بن إبراهيم " (1/91 - 92 ) .
أما التجنّس بجنسية دولة
كافرة فلا يعد كفراً ، ولكنه محرم لغير ضرورة ، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال :
(67782) .
والله أعلم .