الحمد لله.
أولا :
عَنْ قَيْسٍ بن أبي حازم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ : " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ ، فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ ، قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ : ( أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ ) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لِمَ ؟ قَالَ : (لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا ) .
جاء هذا الحديث على وجهين اثنين :
1. مسندا متصلا من رواية قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي : رواه أبو داود برقم (2465) ، والترمذي برقم (1064) ، وغيرهم .
2. مرسلا من رواية قيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم : رواه النسائي برقم (4780) ، وغيره .
وقد ذهب غير واحد من أئمة الحديث إلى ترجيح كون الحديث مرسلا وليس مسندا ، منهم أبو حاتم والبخاري والترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم .
قال الترمذي رحمه الله : " سألت محمدا عن هذا الحديث ، فقال : الصحيح عن قيس بن أبي حازم مرسل .
قلت له : فإن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير ؟ فلم يَعُدَّهُ محفوظا " انتهى من"العلل الكبير" (2/100) .
وقال أبو داود رحمه الله ، بعدما روى الحديث مسندا في سننه : " رَوَاهُ هُشَيْمٌ وَمَعْمَرٌ وَخَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ وَجَمَاعَةٌ لَمْ يَذْكُرُوا جَرِيرًا " انتهى .
وانظر: "البدر المنير" لابن الملقن (9/163) .
فالحديث على هذا ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانيا :
أما عن شرح هذا الحديث ، فننقل هنا أقوال أهل العلم فيه :
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله :
" أما قوله : ( لا تراءى ناراهما ) ففيه قولان :
أما أحدهما : فيقول : لا يحل لمسلم أن يسكن بلاد المشركين ، فيكون منهم بقدر ما يرى كل واحد منهم نار صاحبه ، فيجعل الرؤية في هذا الحديث في النار ، ولا رؤية للنار ، وإنما معناه أن تدنو هذه من هذه ، و كان الكسائي يقول : العرب تقول : داري تنظر إلى دار فلان ودورنا تناظر ، ويقول : إذا أخذت في طريق كذا وكذا ، فنظر إليك الجبل : فخذ عن يمينه أو يساره ، هكذا كلام العرب . قال الله عز وجل وذكر الأصنام فقال : ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ . وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) الأعراف/197-198 ، فهذا وجه .
وأما الوجه الآخر فيقال : أراد بقوله : ( لا تراءى ناراهما ) يريد نار الحرب ، قال الله تعالى : ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ) المائدة/64 ، فيقول : ناراهما مختلفتان ، هذه تدعو إلى الله تبارك وتعالى ، وهذه تدعو إلى الشيطان ، فكيف تتفقان ؟ وكيف يساكن المسلم المشركين في بلادهم ، وهذه حال هؤلاء وهؤلاء .
ويقال : إن أول هذا أن قوما من أهل مكة أسلموا وكانوا مقيمين بها على إسلامهم قبل فتح مكة ، فقال النبي عليه السلام هذه المقالة فيهم ، ثم صارت للعامة " انتهى من"غريب الحديث" (2/88-89) .
وقال ابن الأثير رحمه الله : " أي : يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك ، ولا ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله ، ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم .
وإنما كره مجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان ، وحث المسلمين على الهجرة . والترائي : تفاعل من الرؤية ، يقال : تراءى القوم : إذا رأى بعضهم بعضا ، وتراءى لي الشيء : أي ظهر حتى رأيته .
وإسناد الترائي إلى النارين مجاز من قولهم : داري تنظر إلى دار فلان : أي تقابلها .
يقول : ناراهما مختلفتان ، هذه تدعو إلى الله ، وهذه تدعو إلى الشيطان ، فكيف يتفقان ؟! والأصل في " تراءى " تتراءى ، فحذف إحدى التاءين تخفيفا " انتهى من"النهاية في غريب الحديث" (2/447) .
وقد سبق في موقعنا العديد من الأسئلة التي توضح حكم إقامة المسلم بين أظهر المشركين ، يمكن مراجعتها في قسم ( الولاء والبراء ).
والله أعلم .
تعليق