هل يجوز لآحاد الناس قتل المرتد دون حكم القضاء؟
سمعت أن القتل هو حكم من سب النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع ، إلا أن بعض علمائنا اليوم يرى أن هذا الحكم غير صحيح ، إذ لا بد من محاكمة أولاً ، فما الرأي الصحيح ؟
وسمعت أيضاً أن كعب بن الأشرف وغيره قُتلوا لأنهم سبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، لكننا نجد أنهم قتلوا في العهد المدني ، وهو عهد التمكين ، وبالتالي فإن البعض يرى أن المسلمين الآن في عهد يشبه العهد المكي وليس المدني ، إذ ليس لهم سلطة ، ولا خلافة ، وعليه فإن القتل ليس حكماً صحيحاً في مثل هذه الظروف ، فما رأيكم ؟
أتمنى منكم الشرح بالتفصيل ، مع ذكر الدليل من السنة والتنزيل ، وقول الأوائل من علماء التأويل .
ملخص الجواب:
والخلاصة : أن المرتد بسب النبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره لا يقام عليه عقوبة المرتد إلا من
خلال القاضي الشرعي.
والله أعلم .
الجواب
الحمد لله.
المحاكمة العادلة لمن يسب النبي صلى الله عليه وسلم ليست قولا لبعض العلماء ، بل هي
قول عامتهم ؛ لأنهم متفقون على أن إقامة الحدود شأن الإمام أو الحاكم أو نائبه ،
وهو لا يقيمها إلا بقضاء القاضي الذي يتولى الفصل في شؤون العباد في الدنيا .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو من يتولى القضاء بين الناس ، ويتولى الحكم في
أقوالهم وأفعالهم ، فلما توفي صلى الله عليه وسلم كان ذلك للقضاة من الصحابة
والتابعين والأئمة من بعده .
والمصلحة الشرعية تقضي بذلك على وجه القطع أيضا ؛ إذ لو تُرك الأمر للناس ، يضرب كل
منهم عنق من ارتد عن الدين بزعمه ، أو يقيم الحد على من وقع في الفاحشة ، لسالت
الدماء في المجتمع ، واضطربت أحوال الناس ، ودبت الفوضى في شؤونهم وأمورهم .
ولهذا عقد ابن أبي شيبة رحمه الله في كتابه " المصنف " (6/429-430) بابا بعنوان : "
الدم يقضي فيه الأمراء " ، وأورد فيه بأسانيده الآثار الآتية :
-عن عبد الرحمن بن زيد قال : قال سليمان : " أما الدم فيقضي فيه عمر " .
-عن النزال بن سبرة قال : " كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن لا تقتل نفس دوني " .
-عن ابن سيرين قال : " كان لا يُقضَى في دم دون أمير المؤمنين " .
وعقد بابا آخر (6/507) بعنوان : " من قال : الحدود إلى الإمام "، وساق فيه الأقوال
الآتية :
-عن الحسن قال : " أربعة إلى السلطان : الزكاة ، والصلاة [يعني الإمامة فيها] ،
والحدود ، والقضاء " .
-عن ابن محيريز قال : " الجمعة ، والحدود ، والزكاة ، والفيء ، إلى السلطان " .
-عن عطاء الخراساني قال : " إلى السلطان الزكاة ، والجمعة ، والحدود ".
وهو الأمر الذي استقر في كتب المذاهب المتبوعة ، والأئمة والعلماء ، أن الحدود لا
تقام إلا من خلال بوابة القضاء ، التي هي سلطة مستقلة بتوكيل الإمام .
يقول الكاساني الحنفي رحمه الله – في شروط إقامة الحد -:
" أن يكون المقيم للحد هو الإمام أو من ولاه الإمام " انتهى من " بدائع الصنائع "
(7/57) .
وجاء في " مواهب الجليل " (مالكي) (3/358):
" كان الأصل يقتضي أن يجوز لكل أحد القيام بحق الله تعالى في ذلك ، لكن الشرع فوضه
إلى الأئمة ، كي لا يوقع الاستبداد به في الفتن " انتهى.
وجاء في " إعانة الطالبين " (4/157) من كتب الشافعية :
" إن لم يتب المرتد قتل كفرا لا حدا ، فلا يجب غسله ولا تكفينه ، ولا يصلى عليه ،
ولا يدفن في مقابر المسلمين لخروجه عنهم بالردة ، أي : قَتَلَه الحاكم ، فلو قتله
غيره عُزِّر لافتياته على الإمام [أي : لتعديه على حق الإمام] " انتهى.
ويقول ابن قدامة الحنبلي رحمه الله :
" قتل المرتد إلى الإمام ، حرا كان أو عبدا ، وهذا قول عامة أهل العلم ، إلا
الشافعي ، في أحد الوجهين في العبد " انتهى من " المغني " (9/8).
ويقول الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" لا يجوز الافتئات عَلَى الأئمة ونوابهم ، ولا إظهار مخالفتهم ، ولو كانوا مفرطين
في نفس الأمر ، فإن تفريطهم عليهم لا عَلَى من لم يفرط ، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم في الأئمة: ( يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطئوا فلكم وعليهم
) خرَّجه البخاري " .
انتهى من " مجموع رسائل ابن رجب " (2/608) .
وهكذا ثمة العشرات من النقول عن العلماء الأجلاء عبر العصور ، تؤكد أن إقامة الحد
وقتل المرتد إنما هو شأن القضاء ، وليس شأنا عاما للناس كلهم ، سواء شابه عصرهم
الفترة المكية أم الفترة المدنية ، لا فرق بين الحالين ، كي لا يرفع بعضهم على بعض
السلاح ، فتسيل الدماء بدعوى الوقوع في الردة ، فليس هذا من شأن خاصة الناس ، فكيف
بعامتهم الذين لا يفرقون بين أسباب الردة ، ولا يعرفون موانعها ، ولا حكمها في
المدونات الفقهية ، ولا غيرها من الحدود .
وحوادث السيرة أو السنة النبوية المشار إليها في السؤال تتوافق مع هذا التأصيل ولا
تتعارض ، بل هي التي دلت عليه ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يأمر بإقامة
الحد أو بقتل من يستحق القتل بعد ثبوت ذلك عليه ، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم
في حياته مقام القضاء ، ومقام الولاية ، ومقام الحكم ، وغيرها ، إلى جانب مقام
النبوة المعصوم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الصارم المسلول " : ” فالنبي صلى الله
عليه وسلم لم يكن يقيم الحدود بعلمه ، ولا بخبر الواحد، ولا بمجرد الوحي ، ولا
بالدلائل والشواهد ، حتى يثبت الموجب للحد ، ببينة أو إقرار" انتهى .
فمن يفتئت على القضاء الشرعي اليوم ، ويقيم الحدود بنفسه بدعوى ما وقع من حوادث في
السنة النبوية ، فقد تمسك بمنطق ضعيف ، وحجة واهية .
وأولئك الصحابة الكرام الذين قتلوا المرتدين أو المتعرضين لمقام النبوة إنما صنعوا
ذلك بإذن مسبق مباشر من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بإمضاء لاحق منه عليه الصلاة
والسلام ، وذلك هو نفسه حكم القضاء .
وانظر في موقعنا الأرقام الآتية :
(111252) ، (103739) ، (224854) ، (180128)
، (150989)
، (220324)
.