الحمد لله.
وبناء على هذا ؛ فالمريض مرضا خطيرا إذا أخبره الطبيب بقرب أجله فانزعج ، فإن التفات الطبيب والمريض لسبب الموت هذا له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكونا موقنين بأن الموت والحياة ، والمرض والشفاء ، والمنع والعطاء : كل ذلك بيد الله جل جلاله وحده ، وأن هذا المرض ـ أو غيره ـ سبب ، قد يؤدي إلى مسببه ، كما يحصل عادة أو كثيرا ، وقد يتخلف عن تأثيره ، فلا يموت صاحبه ، كما يتوقع الناس ، وذلك يحدث ـ أيضا ـ كثيرا ؛ فالأجل ـ في حقيقته ـ لا يعلمه إلا الله تعالى .
ومع هذا اليقين بتقدير الله جل جلاله ، فإذا نظر الطبيب والمريض إلى أنّ الحس والمشاهدة والتجربة ، قد بينت أنّ سنة الله في هذا المرض أنه من الأمراض الخطيرة التي تسبب الموت كثيرا ، إذا انظرا إلى ذلك ، فاعتبرا غلبة الظن هذه مع عدم الجزم ، ومع الاعتقاد أنه تحت مشيئة الله تعالى فهذا الالتفات لا يقدح في توحيدهما ، ولا يضرهما إن شاء الله .
الحالة الثانية : أن يغفلا عن مشيئة الله تعالى ؛ ويعتقدا أن المرض مستقل بالتأثير ، ولم ينظرا إلى تقدير الله ومشيئته ؛ فهذا هو الالتفات إلى السبب القادح في التوحيد .
ثانيا : أما وجوب الأخذ بالأسباب ؛ فمن حيث الجملة : نعم ؛ هو واجب ، ولا يجوز الإعراض عن الأسباب كلها ، وقد تواترت نصوص الكتاب والسنة بالأمر بفعل الأسباب المشروعة ، فمن يعرض عنها على وجه العموم يكون مخالفا للشرع .
أما من حيث الكلام عن السبب المعين ، وهل يجب الأخذ به في الحالة المعينة ، أو لا يجب ؛ فهذا يختلف بحسب قوة تأثير السبب أو ضعفه ، وبحسب ما يرجى تحقيقه من المصلحة ، أو عدمها .
فمثلا : الأكل والشرب جعلهما الله سببا لحفظ النفس من الهلاك الذي يسببه الجوع والعطش ، فالأخذ بهذا السبب واجب ، حتى المضطر إلى أكل الميتة يجب عليه الأكل منها ، فإن امتنع حتى مات جوعا ، فإنه يموت عاصيا .
ومثال آخر : تناول المريض للدواء : فالأدوية ليست دائما قوية في التأثير ، وإن كان لها قوة في التأثير ، فهي أحيانا لا تجلب مصلحة ضرورية ، بل قد تدفع بعض الألم فقط ونحو هذا ، ففي هذه الحالة لا يكون هذا السبب واجبا على المسلم ، بل قد يكون مباحا أو مستحبا .
وقد يكون السبب قوي التأثير ، مرجو النفع ، لكن يكون الصبر لصاحبه خيرا له من الأخذ به.
ومن الأدلة المشهورة على هذا :
عن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ : " أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ؟ قُلْتُ: بَلَى . قَالَ : هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي . قَالَ : ( إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ ) ، فَقَالَتْ : أَصْبِرُ ، فَقَالَتْ : إِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ ، فَدَعَا لَهَا " رواه البخاري (5652) ، ومسلم (2576) .
فهذه المرأة اختارت الصبر على المرض ، ووعدها الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة على ذلك.
وقد يجب التداوي في بعض الحالات : إذا كان يلزم من عدم تناوله هلاك النفس ، أو تلف عضو من الأعضاء .
مثل ما علم في عصرنا أن مريض الزائدة إذا تركها حتى انفجرت ، كانت سببا في هلاكه ، وإذا أزالها ، كان هذا التداوي سببا في نجاته ، فهنا يجب عليه التداوي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فإن الناس قد تنازعوا في التداوي هل هو مباح أو مستحب أو واجب ؟ .
والتحقيق: أن منه ما هو محرم ، ومنه ما هو مكروه ، ومنه ما هو مباح ؛ ومنه ما هو مستحب ، وقد يكون منه ما هو واجب ، وهو: ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره ، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة ، فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ، وقد قال مسروق : من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار ، فقد يحصل أحيانا للإنسان إذا استحر المرض ما إن لم يتعالج معه مات ، والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة كالتغذية للضعيف ، وكاستخراج الدم أحيانا " انتهى من " مجموع الفتاوى " (18 / 12) .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"التداوي على أقسام:
فإذا غلب على الظن نفع الدواء ، مع احتمال الهلاك بتركه : فالتداوي واجب.
وإن غلب على الظن نفع الدواء، ولكن ليس هناك احتمال للهلاك بترك الدواء، فالتداوي أفضل.
وإن تساوى الأمران فترك التداوي أفضل" .
انتهى من " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (17/13) .
وانظر للتفصيل في حكم التداوي الفتوى رقم : (81973) ، ورقم : (2438) ، ورقم : (147231) .
والله أعلم .