هل يوجد هناك إجماع على جواز التقليد التام لأحد المذاهب الأربعة في القرن الثالث للهجرة؟ وما المقصود بالآيات التالية: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) فقد قرأت أنّ هذه الآية تشير إلى تقليد المذاهب الأربعة ، وأنّ الأمر في الجزء الثاني من الآية هو مختص بأهل الاجتهاد وليس للعامة ؟ وهل يعني ذلك أنّ العلماء فقط هم من يمكنهم فهم القران والسنة ، وأنّ غيرهم من الناس يجب عليهم تقليد أي من هذه المذاهب الأربعة ؟
الحمد لله.
لا يجب على المسلم اتباع مذهب بعينه من المذاهب الأربعة أو غيرها ، ولا يجوز لأحد أن يقلد أحدا في دين الله تعالى ، بحيث لا يخالفه لا في صغير ولا كبير .
وفي ذلك يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (7 / 307): " وَأَمَّا نَوْعُ التَّقْلِيدِ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ، فَهُوَ تَقْلِيدُ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ ، مِنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ.
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَلَمْ يُقِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْجُمُودِ عَلَى قَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ، مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
فَتَقْلِيدُ الْعَالِمِ الْمُعَيَّنِ مِنْ بِدَعِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ ، وَمَنْ يَدَّعِي خِلَافَ ذَلِكَ ، فَلْيُعَيِّنْ لَنَا رَجُلًا وَاحِدًا مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ ، الْتَزَمَ مَذْهَبَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ ، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ ذَلِكَ أَبَدًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْبَتَّةَ " انتهى .
وقد كان الأئمة رضوان الله عليهم ينهون عن تقليدهم فقد قال الإمام أحمد : " لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا" ، وَقَالَ أيضا : "مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ" انتهى من " إعلام الموقعين عن رب العالمين " (2 / 139).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل سئل : إيش مذهبك؟ فقال: (محمدي) ؛ أتبع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
فقيل: ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبا ، ومن لا مذهب له فهو شيطان .
فقال: إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده - رضي الله عنهم -؟
فقيل له: لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبا من هذه المذاهب ؛ فأيهما المصيب ؟ " .
فأجاب:
" الحمد لله ، إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول .
وهؤلاء ـ أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ـ : إنما تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله ، لا استقلالا ، ثم قال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا .
وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله ، من أي مذهب كان ، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، في كل ما يوجبه ويخبر به ؛ بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واتباع شخص ، لمذهب شخص بعينه ، لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته : إنما هو مما يسوغ له ، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق ؛ بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ، ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله ؛ فيفعل المأمور ، ويترك المحظور. والله أعلم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/208-209) .
وقد سبق في الموقع بيان أن القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة : يأخذ منهما كما أخذ من قبله ، ولا يجوز له أن يقلد أحدا ، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق ، ويجوز له التقليد فيما عجز عنه ، واحتاج إليه. فليراجع ذلك في جواب السؤال رقم : (21420).
وأما قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) النساء/ 59 .
فليس فيه ما يدل على تقليد الأئمة الأربعة ، بل فيه الأمر بطاعة الله تعالى ورسوله الكريم وطاعة ولاة الأمر ، وولاة الأمور هم الأمراء الذين يحكمون بما أنزل الله ، والعلماء والفقهاء المتبعون لأمر الله جل وعلا ، دون تخصيص ذلك بعالم معين ، قال البغوي في تفسيره (2 / 239): " اخْتَلَفُوا فِي (أُولِي الْأَمْرِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، وَدَلِيلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النِّسَاءِ -83) . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَيُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا" انتهى.
وأما قوله تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) فالمخاطب به كل من كانت له أهلية النظر في الأدلة، أما من لم تكن عنده أهلية النظر ، فعليه سؤال أهل العلم والعمل بفتاواهم .
قال الآمدي في "الإحكام في أصول الأحكام" (4 / 228): " العامي ، ومن ليس له أهلية الاجتهاد، وإن كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد : يلزمه اتباع قول المجتهد ، والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين " انتهى.
والله أعلم.