الحمد لله.
أما علم الطب : فعلم شريف نافع ، محمود
بالشرع، روى أبو داود (3874) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ
الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا
تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ ) .
وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1762) .
وروى ابن أبي حاتم في آداب الشافعي (ص 244) عن الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله قال :
" إِنَّمَا الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الدِّينِ، وَعِلْمُ الدُّنْيَا،
فَالْعِلْمُ الَّذِي لِلدِّينِ هُوَ: الْفِقْهُ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لِلدُّنْيَا
هُوَ: الطِّبُّ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الشِّعْرِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ عَنَاءٌ
أَوْ عَيْبٌ "
وقَالَ: " لا تَسْكُنَنَّ بَلَدًا لا يَكُونُ فِيهِ عَالِمٌ يُفْتِيكَ عَنْ
دِينِكَ، وَلا طَبِيبٌ يُنْبِئُكَ عَنْ أَمْرِ بَدَنِكَ " .
وقال الرَّبِيْع سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: " لاَ أَعْلَمُ عِلْماً بَعْدَ
الحَلاَلِ وَالحَرَامِ أَنْبَلَ مِنَ الطِّبِّ ، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ
غَلَبُوْنَا عَلَيْهِ ".
وقَالَ حَرْمَلَةُ: " كَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَلَهَّفُ عَلَى مَا ضَيَّعَ
المُسْلِمُوْنَ مِنَ الطِّبِّ ، وَيَقُوْلُ: ضَيَّعُوا ثُلُثَ العِلْمِ ،
وَوَكَلُوهُ إِلَى اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى " .
"سير أعلام النبلاء" (8/ 258)
ثانيا :
أما قول القحطاني رحمه الله في "نونيته" (ص32) :
كذب المهندس والمنجم مثله ... فهما لعلم الله مدعيان
الأرض عند كليهما كروية ... وهما بهذا القول مقترنان
فهو جار على ما كان يعتقده من كون الأرض ليست كروية ، وإنما هي مسطحة ، وهذا مما
أخذ عليه في نونيته كما سبق بيانه في إجابة السؤال السابق .
فهو يعيب قول المهندس بكروية الأرض ، لا يعيب علم الهندسة جملة وتفصيلا .
وكذلك لا يعيب علم الفلك ، وإنما يعيب التنجيم وادعاء علم الغيب .
وحاصل القول هنا : أن توقفك عن الدراسة
الجامعية في الطب أو الهندسة بناء على ما قاله القحطاني : تصرف غير صحيح ، فإن كلام
القحطاني ليس صريحا في ذم هذه العلوم ، وإنما يحتمل عدة معانٍ كما سبق .
ولو فُرض أنه يقصد ذمها حقيقة فهو مجرد اجتهاد منه – عفا الله عنه – لم يوفق فيه
للصواب .
ومن الملعوم أن عامة أهل العلم ، بل عامة أمر المسلمين : على خلاف ذلك ، كما لا يخفى ؛ وقد كان الواجب عليك أن تتثبت ، وتسأل الثقات من أهل العلم ، قبل أن تقدم على خطوة كالتي ذكرت من تركك للدراسة ؛ فالقرارات المصيرية كهذه ليس من الحكمة ولا الصواب ، ولا العقل ، بل ولا الشرع في شيء : أن يبنيها الإنسان على قول عارض ، أو معلومة صادفته ، أو رأي سمعه ، أو خاطر سنح له ؛ بل لا بد من التثبت البالغ في مثل ذلك ، ومشاورة العقلاء الناصحين ، ومساءلة أهل العلم ، ومدارستهم بما يحتاجه المرء .
وقد مدح ابن خلدون علم الهندسة ، فقال
:
"واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله ، واستقامة في فكره ، لأن براهينها
كلها بينة الانتظام ، جلية الترتيب ، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها ، لترتيبها
وانتظامها ، فيبعد الفكر بممارستها عن الخطإ ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع
[المهيع هو الطريق الواسع ، والمراد أنه ينشأ لصاحبها عقل على ذلك الطريق ، وهو
استنتاج شيء من شيء آخر] ...
وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون : ممارسة علم الهندسة للفكر ، بمثابة الصابون للثوب
الذي يغسل منه الأقذار ، وينقيه من الأوضار والأدران ، وإنما ذلك لما أشرنا إليه من
ترتيبه وانتظامه" انتهى من مقدمة ابن خلدون (ص 296) .
والله تعالى أعلم .