الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

هل عاب القحطاني في "نونيته" الطبّ والهندسة، ونهى عن دراستهما ؟

247070

تاريخ النشر : 14-08-2016

المشاهدات : 12449

السؤال


ذكر القحطاني في نونيته عدم دراسة العلوم الطبية والهندسية حيث ذكر : أنها "منية للطبيب" ، فهل هذا يعني أننا لا ندرس العلوم الطبية والهندسية وعلم الفلك . فمنذ أن سمعت النونية توقفت عن الدراسة الجامعية اقتداء بما قال ؟!

الجواب

الحمد لله.


أولًا :
تقدم في جواب السؤال رقم : (161853) نبذة مختصرة عن "نونية القحطاني" ذكرنا فيه مزاياها في النظم والمعنى، وأنها اشتملت على أساسيات العقيدة ، كما ذكرنا المؤاخذات التي أخذت عليها ، ومنها: اشتمالها على بعض الأبيات التي يشكل معناها ، وتحتاج إلى شيء من التأويل، وقد تشتمل على ما يحتمل عدة أوجه من الشرح والتفسير .
أما قوله عن قصيدته (ص 59) :
هي للمنجم والطبيب منية ... فكلاهما ملقان مختلفان
فالظاهر أنه لا يقصد بالطبيب المشتغل بالطب وعلاج الأمراض؛ فإنه لا يخفى عليه أن الشارع أباح الطب وحث على التداوي، وهذا معروف في كثير من نصوص الشرع، وإنما يقصد بالطبيب الفيلسوف ؛ فقد كانوا يطلقون على علم الطب : الحكمة ، ويقال للطبيب : الحكيم ، وكذا كان يقال للفيلسوف عند من يشتغل بالفلسفة ، ويظنونها من علوم الحكمة . جاء في المعجم الوسيط (1/ 190):
(علم الْحِكْمَة): الكيمياء والطب .
و(الْحَكِيم) من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَذُو الْحِكْمَة، والفيلسوف، والطبيب "
انتهى .
ويقال لداود الطائي صاحب التذكرة في الطب : داود الحكيم .
وقد قال القحطاني قبل ذلك (ص 33):
قل للطبيب الفيلسوف بزعمه ... إن الطبيعة علمها برهانِ [ كذا ]
إلى أن قال :
يا فيلسوف لقد شغلت عن الهدى ... بالمنطق الرومي واليوناني
فسمى الفيلسوف طبيبا ، بجامع ما يشتركان فيه من ادعاء الحكمة والعلم .
فقوله :
هي للمنجم والطبيب منية
يقصد بالطبيب الفيلسوف ، يقول : هذه القصيدة للمنجم الذي يدعي علم الغيب، والفيلسوف الذي يشتغل بالمنطق اليوناني منية ، يعني موتا .
ويحتمل أنه يقصد بذلك رأس الفلاسفة والأطباء في زمانه وهو ابن سينا، فإنه كان فيلسوفا طبيبا.
قال الذهبي رحمه الله في ترجمته من "السير" (13/ 199):
" أَبُو عَلِيٍّ، الحُسَيْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ بن عَلِيِّ بنِ سِينَا، البَلْخِيُّ ثُمَّ البُخَارِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ فِي الطِّبِّ وَالفَلْسَفَةِ وَالمنطِقِ " انتهى .
وقوله : فكلاهما ملقان مختلفان
فالمَلِقُ في اللغة: الَّذِي يَعِدُك ويُخْلِفك فَلَا يَفِي، وَيَتَزَيَّنُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ .
وَرَجُلٌ مَلِقٌ: يُعْطِي بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ.
لسان العرب (10/ 347)
فالمعنى: كلاهما - المنجم والفيلسوف - يكذب ولا يصدق ، ويتزين بما ليس عنده ، ولكل منهما مذهب في ذلك يختلف عن صاحبه.
وقد يكون المعنى : كلاهما ضعيف لا يعتد به ، والعرب تقول : رَجُلٌ مَلِقٌ: أي ضَعِيفٌ .
لسان العرب (10/ 349)

أما علم الطب : فعلم شريف نافع ، محمود بالشرع، روى أبو داود (3874) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ ) .
وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1762) .
وروى ابن أبي حاتم في آداب الشافعي (ص 244) عن الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله قال : " إِنَّمَا الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الدِّينِ، وَعِلْمُ الدُّنْيَا، فَالْعِلْمُ الَّذِي لِلدِّينِ هُوَ: الْفِقْهُ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لِلدُّنْيَا هُوَ: الطِّبُّ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الشِّعْرِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ عَنَاءٌ أَوْ عَيْبٌ "
وقَالَ: " لا تَسْكُنَنَّ بَلَدًا لا يَكُونُ فِيهِ عَالِمٌ يُفْتِيكَ عَنْ دِينِكَ، وَلا طَبِيبٌ يُنْبِئُكَ عَنْ أَمْرِ بَدَنِكَ " .
وقال الرَّبِيْع سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: " لاَ أَعْلَمُ عِلْماً بَعْدَ الحَلاَلِ وَالحَرَامِ أَنْبَلَ مِنَ الطِّبِّ ، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ غَلَبُوْنَا عَلَيْهِ ".
وقَالَ حَرْمَلَةُ: " كَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَلَهَّفُ عَلَى مَا ضَيَّعَ المُسْلِمُوْنَ مِنَ الطِّبِّ ، وَيَقُوْلُ: ضَيَّعُوا ثُلُثَ العِلْمِ ، وَوَكَلُوهُ إِلَى اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى " .
"سير أعلام النبلاء" (8/ 258)

ثانيا :
أما قول القحطاني رحمه الله في "نونيته" (ص32) :
كذب المهندس والمنجم مثله ... فهما لعلم الله مدعيان
الأرض عند كليهما كروية ... وهما بهذا القول مقترنان
فهو جار على ما كان يعتقده من كون الأرض ليست كروية ، وإنما هي مسطحة ، وهذا مما أخذ عليه في نونيته كما سبق بيانه في إجابة السؤال السابق .
فهو يعيب قول المهندس بكروية الأرض ، لا يعيب علم الهندسة جملة وتفصيلا .
وكذلك لا يعيب علم الفلك ، وإنما يعيب التنجيم وادعاء علم الغيب .

وحاصل القول هنا : أن توقفك عن الدراسة الجامعية في الطب أو الهندسة بناء على ما قاله القحطاني : تصرف غير صحيح ، فإن كلام القحطاني ليس صريحا في ذم هذه العلوم ، وإنما يحتمل عدة معانٍ كما سبق .
ولو فُرض أنه يقصد ذمها حقيقة فهو مجرد اجتهاد منه – عفا الله عنه – لم يوفق فيه للصواب .

ومن الملعوم أن عامة أهل العلم ، بل عامة أمر المسلمين : على خلاف ذلك ، كما لا يخفى ؛ وقد كان الواجب عليك أن تتثبت ، وتسأل الثقات من أهل العلم ، قبل أن تقدم على خطوة كالتي ذكرت من تركك للدراسة ؛ فالقرارات المصيرية كهذه ليس من الحكمة ولا الصواب ، ولا العقل ، بل ولا الشرع في شيء : أن يبنيها الإنسان على قول عارض ، أو معلومة صادفته ، أو رأي سمعه ، أو خاطر سنح له ؛ بل لا بد من التثبت البالغ في مثل ذلك ، ومشاورة العقلاء الناصحين ، ومساءلة أهل العلم ، ومدارستهم بما يحتاجه المرء .

وقد مدح ابن خلدون علم الهندسة ، فقال :
"واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله ، واستقامة في فكره ، لأن براهينها كلها بينة الانتظام ، جلية الترتيب ، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها ، لترتيبها وانتظامها ، فيبعد الفكر بممارستها عن الخطإ ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع [المهيع هو الطريق الواسع ، والمراد أنه ينشأ لصاحبها عقل على ذلك الطريق ، وهو استنتاج شيء من شيء آخر] ...
وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون : ممارسة علم الهندسة للفكر ، بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار ، وينقيه من الأوضار والأدران ، وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه" انتهى من مقدمة ابن خلدون (ص 296) .
والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب

موضوعات ذات صلة