من كان أحب الناس للرسول صلى الله عليه بشكل عام ؟ فقد سمعت البعض يقول : هي فاطمة رضي الله عنها، والبعض يقول : خديجة رضي الله عنها، والبعض يقول : زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وأنا متيقن أن هذا الشخص هو من أهل البيت، وأنا أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( أحب النساء إليه عائشة، وأحب الرجال إليه أبو بكر رضي الله عنهما) ، ولكن خديجة في ذلك الوقت كانت متوفاة ، وهل أجمع أهل العلم على أن خديجة رضي الله عليها كانت أحب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إليه ، ثم عائشة رضي الله عنها، حيث ذَكَرَت أنها كانت تغار من خديجة .
الحمد لله.
ليس من الصواب الخوض في تحديد الأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الإطلاق خارج إطار النصوص الشرعية، ودون تفصيل بين الرجال والنساء، وبين أصحابه وآل بيته الأطهار.
لأن المعوقات التي تحول دون التحديد المطلق كثيرة، أهمها ورود النصوص العديدة في فضل كل واحد من الصحابة الكرام، وهي نصوص صحيحة وصريحة، الأمر الذي تغدو المقارنة معه ضربا من الترجيح بلا مرجح، أو نوعا من خلط الدلالات بعضها ببعض.
أما إذا ورد النص الصحيح الصريح الذي لا ينازعه غيره، ولا يشتبه به غيره، فعلى الرأس والعين، وهو أول ما يأخذ به علماء السنة والحمد لله.
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ) ، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ ، فَقَالَ: (أَبُوهَا)، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ( ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب )، فَعَدَّ رِجَالًا". رواه البخاري في "صحيحه" (رقم/3662) ، ومسلم في "صحيحه" (رقم/2384) .
فدلالة هذا الحديث نصية ظاهرة على أن الأحب إليه صلى الله عليه وسلم ، مطلقا ، من الرجال : هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو محل إجماع لدى العلماء والحمد لله.
وأما دلالته على محبة عائشة أكثر من خديجة : فهي محل توقف؛ لما يبدو أن عمرو بن العاص أراد بسؤاله : الأحياء من الناس، وأما خديجة فكانت متوفاة يومئذ رضي الله عنها.
ولهذا وقع الخلاف الكبير بين العلماء في أفضلية إحداهما على الأخرى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"أفضل نساء هذه الأمة خديجة وعائشة وفاطمة. وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع وتفصيل" انتهى من " مجموع الفتاوى" (4/ 394) .
فيمكن أن يقال بتفضيل عائشة رضي الله عنها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) رواه البخاري (3411) ، ومسلم (2431) .
ويمكن أن يقال بتفضيل خديجة رضي الله عنها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ) رواه البخاري (3432) ، ومسلم (2430) .
كما يمكن أن يقال بتفضيل فاطمة رضي الله عنها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ) رواه البخاري (3624) ، ومسلم (2450).
وهي – كما ترى – أدلة واضحة في تفضيل كل واحدة منهن رضي الله عنهن، وقد ذهب إلى تفضيل كل واحدة منهن طائفة من العلماء، لا نحب الإطالة بالنقل عنهم .
وإنما نريد التأكيد للقارئ على أنه مع هذا الاشتباه في نظر الناظر : يشق الجزم بفضل إحداهن على الأخريات ، إلا بقدر من التكلف .
ولهذا ؛ فالذي نراه متجها هو نسبة الفضل لهن جميعا، وحفظ مقامهن السامي على جميع نساء الأمة، وهو ما يبدو أن الأحاديث النبوية تشير إليه، حيث وردت أسماؤهن في سياق واحد، ومقام واحد، مشعرا بما نتحدث عنه من نسبة الفضل إليهن جميعا، والسكوت عن المقارنة فيما بينهن.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ)رواه الترمذي (رقم/3878) وقال: حسن صحيح.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:"خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ ، قَالَ: ( تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ ) ، فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ( أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ) " رواه أحمد في " المسند " (4/ 409) وصححه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (6/ 178) .
والروايات في هذا الباب كثيرة.
يقول الإمام النووي رحمه الله ، في شأن مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد:
"الأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه" انتهى باختصار من "شرح مسلم" (15/ 198) .
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله – في المفاضلة بين خديجة وعائشة -:
"والحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لَبَهره وحيَّره .
والأحسن التوقف في ذلك، ورد علم ذلك إلى الله عز وجل .
ومن ظهر له دليل يقطع به ، أو يغلب على ظنه في هذا الباب، فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم .
ومن حصل له توقف في هذه المسألة، أو في غيرها، فالطريق الأقوم والمسلك الأسلم أن يقول: الله أعلم" انتهى من "البداية والنهاية" (4/ 322) .
ويقول ابن حجر رحمه الله:
"وقال بعض من أدركناه: الذي يظهر أن الجمع بين الحديثين أولى، وأن لا نفضل إحداهما على الأخرى" انتهى من "فتح الباري" (7/139) .
وللمزيد يرجى النظر في الأرقام الآتية: (198725)، (7181)، (138464)، (145623).
والله أعلم.