من صفات المنافق إن حدث كذب، فكيف يمكن فهم ذلك؟ حيث أظن أن الحديث لا ينطبق على من يكذب في بعض الأحيان، فحتى الشيطان صدق في حديثه عن آية الكرسي، ومعظم الناس تكذب، يفعلون ذلك عندما يكون الكذب في صالحهم، أو اتباعًا لشهوة، أو بسبب الخوف، وما إلى ذلك من الأسباب؟ وهل ينطبق ذلك على من ينشر ويخترع الأخبار الكاذبة والإشاعات بناء على ظنونهم غير المؤكدة والشكوك، وأريد أن أعرف متى يكتب الرجل عند الله كذابًا؟ وما هي درجات الكذب؟ وما هو الكذب المتعلق بالدين والأعمال؟ وما هو الوعد؟ أعلم أنه يجب على المسلم الحرص على تنفيذ كلمته، ولكن متى يعتبر إعطاء الكلمة وعدًا؟ فإن قلت: سأفعل ذلك هل يعتبر ذلك وعدًا؟ هل يجب علي القول بأنني أعد فعل كذا وكذا؟ هل الأفضل القول ربما سأفعل إن لم أكن متأكدا؟ وما الحكم في قول الرجل إن شاء الله ليعني بذلك أنه على الأغلب لن يفعل ذلك، ولا يبذل أي جهد مع العلم أن قول ذلك سيمنح الأمل للمستمع؟
الحمد لله.
أولاً:
صفة الكذب من أخصّ صفات المنافقين، فمن يحدث الناس بالكذب سواء لمصلحته أو لأي سبب كان فهو مذموم مستحق للعقوبة التي أعدها الله للكذابين .
ولا يدخل في هذا من كذب ضرورةً وخوفًا من ظلم جبار أو لأجل الحرب، أو كان كذبه إصلاحا بين الناس أو مما يحدث به الرجل امرأته.
وينظر جواب السؤال: (154955).
ثانياً:
قد جاء التحذير الشديد لمن يكذب ويخترع الأخبار الكاذبة ، وكذلك جاء التحذير من نقل الأخبار بدون تثبّت ، فعن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ رواه مسلم (5).
وعن سمرة بن جندب في حديث الرؤيا الطويل (وأما الرجل الذي أتيت عليه، يشرشر [أي يقطع ويسحب] شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) رواه البخاري (7047).
فهذا العذاب الشديد في البرزخ لمن يكذب كذبة تبلغ الآفاق .
وأما من يرمي بالظنون الخاطئة، ويحدث الناس بما يظن وقوعه، أو يعزو ما يراه من أحداث وظواهر إلى أسباب غير صحيحة ؛ فهو مخطئ، مذموم أيضا، غير أنه لا يستحق الوعيد المذكور في هذا الحديث، لأنه لم يتعمد الكذب.
لكنه داخل في جملة الكذابين، إذا كان يحدث بكل شيء يسمعه، دون أن يتحرى مصداقيته.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ رواه مسلم في "مقدمة الصحيح".
وأشد من ذلك: أن ينقل أمرا، ويحدث به، وهو يعتقد، أو يغلب على ظنه، أنه كذب؛ ولم يكن هو من اختلقه.
فعن المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ ). رواه مسلم في "مقدمة الصحيح".
قال النووي، رحمه الله: " قوله صلى الله عليه وسلم : ( يرى أنه كذب ، فهو أحد الكاذبين ) : ضبطناه: يُرى: بضم الياء ، والكاذبِين: بكسر الباء وفتح النون على الجمع. وهذا هو المشهور في اللفظتين. قال القاضي عياض: الرواية فيه عندنا الكاذبين، على الجمع. ورواه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المستخرج على صحيح مسلم في حديث سمرة الكاذبين، بفتح الباء وكسر النون على التثنية. واحتج به على أن الراوى له، يشارك البادئ بهذا الكذب. ثم رواه أبو نعيم من رواية المغيرة: الكاذبَيْن، أو الكاذبِين، على الشك في التثنية والجمع.
وذكر بعض الأئمة جواز فتح الياء من يَرى، وهو ظاهر حسن.
فأما من ضم الياء، فمعناه: يظن. وأما من فتحها فظاهر، ومعناه: وهو يعلم. ويجوز أن يكون بمعنى يظن أيضا، فقد حكي رأى بمعنى ظن.
وقيد بذلك: لأنه لا يأثم إلا بروايته ما يعلمه، أو يظنه كذبا.
أما ما لا يعلمه، ولا يظنه: فلا إثم عليه في روايته، وإن ظنه غيره كذبا أو علمه.
وأما فقه الحديث: فظاهر؛ ففيه تغليظ الكذب والتعرض له، وأن من غلب على ظنه كذب ما يرويه، فرواه؛ كان كاذبا؛ وكيف لا يكون كاذبا وهو مخبر بما لم يكن؟!". انتهى، من "شرح مسلم" (1/64-65).
وبكل حال؛ فهناك فرق بين هذا، وبين من يحلل الأخبار والأحداث ويربط بينها، ويستنتج .. فهذا إن كان أهلا لهذا التحليل فهو مجتهد ، لا لوم عليه ، وإن كان غير أهل فليس له الكلام فيما لا يعلمه.
ثالثا:
وأما سؤالك : متى يكتب الرجل عند الله كاذبا؟
فجوابه : أن مَن أكثر من الكذب وتحراه، كُتِب عند الله كذابا ؛ كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال: إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا رواه البخاري (6094)، ومسلم (2607).
ومعنى : "يتحرى الكذب" أي : "يبالغ ويجتهد فيه"، كما في "عون المعبود".
وليس المقصود من الحديث أن الكذاب لا يستحق هذا الوصف حتى يكون كذابا في كل ما يقول ، ولا يصدق أبدا ، بل المراد أنه يكثر من الكذب، ويعتاده ، ويغلب على حاله؛ فإنه يكتب عند الله كذابا.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
"فيه التحذير من الكذب والتساهل فيه ، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه ، فعرف به ، فكتبه الله لمبالغته كذابا إن اعتاده" انتهى بتصرف يسير.
وعلى ذلك؛ فالحديث لا ينطبق على من يكذب نادرا، وإنما ينطبق على من يكثر منه الكذب ويعتاده.
هذا؛ مع أن الكذب مذموم بكل حال، قليله وكثيره، إلا ما استثناه الشرع مما سبق الإشارة إليه.
ولا يمكن لأحد أن يعلم عن معيّن من الناس، هل قد كُتب عند الله كذابا، أم لم يكتب بعدُ؟! فهذا من علم الغيب، والسؤال عنه استرسال، وتنطّع؛ ولا حاجة إليه.
وأما سؤالك عن درجات الكذب: فليس فيه حد جامع؛ لكنه يختلف بحسب المكذوب عليه، وبحسب ما يؤدي إليه من مفاسد وأضرار.
فالكذب على الله، ليس كالكذب على الناس ، قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ سورة الأنعام/144.
وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ الأنعام/ 93.
قال ابن سعدي : "لا أحد أعظم ظلمًا، ولا أكبر جرمًا، ممن كذب على الله. بأن نسب إلى الله قولًا أو حكمًا، وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق، لأنَّ فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها، وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله ما هو من أكبر المفاسد" انتهى من "تفسير السعدي" ص(264) .
والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ليس كالكذب على غيره من الناس ؛ قال صلى الله عليه وسلم : (إن كذبا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري (1229) .
والكذبة التي تبلغ الآفاق، ليست كالكذبة المحدودة التي لم تنتشر .
والكذب في الشهادات، واتهام الناس بما قد يبيح شيئا من دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم ، ليس كالكذب الذي لا يبلغ ذلك.
والحاصل:
أن من الكذب ما لا يترتب عليه ضرر، أو يكون ضرره محصورا ، ومنه ما ينتج عنه مفاسد وشر مستطير ؛ والكذب وإن كان كله شرا، مذموما؛ إلا أن بعض الشر أهون من بعض!
ثالثا:
الوعد : هو التعهد بفعل الخير في المستقبل ، وأما الوعد بالشر فقد رغَّب الشرع في العفو والصفح، إن كان ذلك أصلح من العقاب ، وإنفاذ الوعيد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ فِي الْحَدِيثِ : الْوَعْدُ بِالْخَيْرِ ، وَأَمَّا الشَّرُّ فَيُسْتَحَبُّ إِخْلَافُهُ ، وَقَدْ يَجِبُ ، مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى تَرْكِ إِنْفَاذِهِ مَفْسَدَةٌ " انتهى من "فتح الباري" (1/90).
وإخلاف الوعد : عدم الوفاء به عن عمد ، من غير عذر معتبر .
فإذا لم يف به لعذر ، مثل قيام مانع يمنعه من الوفاء ، أو عجزه عنه ، أو نحو ذلك : فليس هذا بمخلف وعده.
لكن من وعد، ثم بدا له ألا يفي، من غير عذر يمنعه من الوفاء؛ فهذا قد تحققته منه صورة الإخلاف، وقد صرح بعض أهل العلم بدخوله في الوعيد الوارد في هذا الحديث.
قال ابن رجب رحمه الله :
"(إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ) وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعِدَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ لَا يَفِيَ بِوَعْدِهِ ، وَهَذَا أَشَّرُ الْخُلْفِ .
وَلَوْ قَالَ: أَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ، كَانَ كَذِبًا وَخُلْفًا ، قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ .
الثَّانِي : أَنْ يَعِدَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ ، فَيُخْلِفُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي الْخُلْفِ" انتهى من "جامع العلوم والحكم" (2/ 482-483).
وبكل حال؛ فمن لم يكن عازما على الوفاء؛ فعليه أن لا يَعِدَ الناس ، بل يبين لهم أنه غير جازم بفعله.
فإن وعدهم فليعلمهم أن وعده غير لازم ، بل حسب ما يتيسر له ونحو ذلك .
وحفظ المواعيد من علامات أهل الإيمان ، وإخلافه دليل على الكذب وضعف الديانة ؛ وقد كان الإمام أحمد بن حنبل يستعمل إخلاف المواعيد قرينة على كذب الرجل .
قال عبد الله بن الإمام أحمد "حدثني هارون بن سفيان المستملي، قال: قلت لأبيك أحمد بن حنبل: كيف تعرف الكذابين؟ قال بمواعيدهم" انتهى من "الكامل لابن عدي" (1/102).
وينظر جواب السؤال: (220555).
والله أعلم.