الحمد لله.
أولا :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ ، قَالَ: " إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ ، وَقَعَ الشَّيْطَانُ ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ " .
ثُمَّ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ ، يُرِيدُ بِهَا صِلَةً ، إِلَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ ، يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً ، إِلَّا زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً " .
والحديث : أخرجه أحمد في "مسنده" (9624) ، وأبو داود في "سننه" (4879) ، والبزار في "مسنده" (8495) ، والبغوي في "شرح السنة" (3586) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/236) ، والقضاعي في "مسند الشهاب" (820) ، جميعا من طريق محمد بن عجلان عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه به .
وخالف الليثُ بن سعد محمدَ بن عجلان فرواه عن سعيد المقبري ، عن بشير بن المحرر ، عن سعيد بن المسيب به مرسلا ، أخرجه من طريق الليث أبو داود في "سننه" (4896) .
فمن أهل العلم من رجح المرسل ، كالإمام البخاري في "التاريخ الكبير" (2/102) .
وقال الدارقطني في "العلل" (8/153) :" ويشبه أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ ابْنِ عَجْلَانَ ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَدِ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ رِوَايَتَهُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ - فِيمَا ذَكَرَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - : أَصَحُّ النَّاسِ رِوَايَةً عَنِ الْمَقْبُرِيِّ ، وَعَنِ ابْنِ عَجْلَانَ ، عَنْهُ يُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَهَا عنه قديما ". اهـ
وبذلك جزم ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/11) .
ومن أهل العلم من لم يعل الموصول بالمرسل ، وقَبِل الحديث ، ومن هؤلاء البوصيري كما في "إتحاف الخيرة" (5/478) حيث قال :" ورواته ثقات " . اهـ ، وصححه العامري في "الجد الحثيث" (ص44) ، وصحح العجلوني إسناده في "كشف الخفاء" (1/101) ، والصنعاني في "سبل السلام" (2/676) ، وحسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2376) .
ثانيا :
أما معنى الحديث ، على تقدير صحته ، وهو ما سأل عنه الأخ الكريم ، فجوابه ما يلي :
كان النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فسب رجلٌ أبا بكر رضي الله عنه مرتين ، كما في رواية أبي داود (4896) ، وفي كل مرة يصمت أبو بكر ولا يرد عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم يتعجب ويبتسم ، ثم سبه الرجل مرة ثالثة ، وحينئذ ردّ عليه أبو بكر وانتصر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من المجلس ، فتبعه أبو بكر ، وسأله عن سبب غضبه وذهابه من المجلس ، فأخبره أنه ما من مرة سبَّه فيها الرجل وسكت ، إلا ردّ عليه مَلَك ، فلما انتصر أبو بكر ، وردّ بنفسه ، ذهب الملك وحضر الشيطان ، وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر مجلسا فيه الشيطان .
وردُّ أبي بكر على الرجل ليس حراماً ، بل هو أخذ بالرخصة في الانتصار لمن ظُلم ، قال ابن رسلان في "شرح سنن أبي داود" (18/639) :"فانتصر منه أبو بكر بعد ظلمه له ثلاث مرات ، وأخذ بحقه ، وجاوبه بمثل ما قال ، ولم يجاوز مثل ما قال له ، فالمنتصر مطيع لله بما أباحه له ، وقد ذكر الله حد الانتصار فقال :" وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا " الشورى/40 .....
ثم قال :
" وأما هذا الحديث فمن وقع في عرضه إنسان فله حالتان : حالة جواز وإباحة ، وهو الانتصار ممن وقع فيه دون عدوان ، وحالة فضيلة وحصول ثواب على صبره ، فأبو بكر استعمل فضيلة الجواز بعد ثالثة ، فانتصر ، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد له حالة الفضيلة وحصول الثواب ". اهـ
وقال القاري في "مرقاة المفاتيح"(8/3185) في سبب ردّ أبي بكر على الرجل :" عَمَلًا بِالرُّخْصَةِ الْمُجَوِّزَةِ لِلْعَوَامِّ ، وَتَرْكًا لِلْعَزِيمَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَرْتَبَةِ الْخَوَاصِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39] ، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126]". اهـ
وأما قيام النبي صلى الله عليه وسلم من المجلس ، فلأمرين :
الأول : أنه أراد من أبي بكر رضي الله عنه أن يأخذ بالكمال المناسب لمنزلته وفضله ، قال القاري في "مرقاة المفاتيح"(8/3185) :" وَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ جَمَعَ بَيْنَ الِانْتِقَامِ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ ، وَبَيْنَ الصَّبْرِ عَنْ بَعْضِهِ، لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْكَمَالَ الْمُنَاسِبَ لِمَرْتَبَتِهِ مِنَ الصِّدِّيقِيَّةِ ؛ مَا اسْتَحْسَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ". اهـ
و قال الصنعاني في "التحبير لإيضاح معاني التيسير" (3/176) :" وكأنه - صلى الله عليه وسلم - أحبّ للصديق الصبر والمغفرة لقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) ". اهـ
الثاني : أنه مجلس حضر فيه الشيطان ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحضر مجلسا حضر فيه الشيطان ، قال ابن رسلان في "شرح سنن أبي داود" (18/639) :" فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحضر في مكان حضر فيه الشيطان ، بل ينتقل منه كما في قضية الوادي ، إذ قال : إن به شيطانا حضر لما فاتتهم الصلاة فارتحلوا عنه ". اهـ
والله أعلم .