الحمد لله.
أولا:
لعلك اطلعت على الأجوبة التي تبين عدم جواز دعاء الصفة، وأما الدعاء بصفات الله تعالى فهو أمر مشروع، وراجع جواب السؤال رقم: (185053)، ورقم: (272226) للوقوف على الفرق بين الأمرين.
ثانيا:
دلت الأحاديث النبوية على مشروعية الاستعاذة بصفات الله تعالى؛ كالكلام والعزة والقدرة؛ ومن ذلك:
عن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ، قال: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ، تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ) رواه مسلم (2708).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ) رواه البخاري (3371).
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ أَنَّهُ قَالَ: " أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (امْسَحْ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ)، قَالَ: فَفَعَلْتُ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي، فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ". رواه مسلم (2202)، والترمذي (2080) واللفظ له، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
وهذا دليل على أن صفاته، ككلامه وعزته وقدرته: ليست مخلوقة؛ لأنه لا يستعاذ بالمخلوق.
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: " باب ما كان النبي يستعيذ بكلمات الله لا بكلام غيره.
وقال نعيم: لا يستعاذ بالمخلوق، ولا بكلام العباد والجن والإنس، والملائكة.
وفي هذا دليل أن كلام الله غير مخلوق، وأن سواه مخلوق " انتهى من"خلق أفعال العباد" (2 / 232).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، ولأنه قد ثبت في الصحيح وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، قالوا: والاستعاذة لا تكون بمخلوق " انتهى من"اقتضاء الصراط المستقيم" (2 / 323).
والمستعيذ بالصفة المضافة لله: مستعيذ بالله تعالى؛ لأن الصفة ملازمة لذات الله تعالى لا تنفك عنها.
قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى:
" فإذا قلت: أعوذ بالله، فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة، التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه.
وإذا قلت: أعوذ بعزة الله، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى، ولم أعذ بغير الله، وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن (ذات) في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذاتُ وجودٍ، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم، إلى غير ذلك من الصفات، فذات كذا، بمعنى صاحبة كذا، تأنيث ذو، هذا أصل معنى الكلمة.
فعُلم أن الذات لا يُتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتا مجردة عن الصفات، كما يفرض المحال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ). ولا يَعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله" انتهى من"شرح الطحاوية" (ص 126- 127).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ولهذا كان أهل السنة والجماعة والحديث هم المتبعين لكتاب الله، المعتقدين لموجب هذه النصوص، حيث جعلوا كل محدث من الأعيان والصفات والأفعال، المباشرة والمتولدة، وكل حركة طبعية أو إرادية أو قسرية؛ فإن الله خالق كل ذلك، جميعه، وربه ومالكه ومليكه ووكيل عليه...
وأما صفة الله تعالى: فهي داخلة في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة؛ فإذا قلت: عبدت الله ودعوت الله و( إياك نعبد )؛ فهذا الاسم لا يخرج عنه شيء من صفاته، من علمه ورحمته وكلامه وسائر صفاته؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقد ثبت عنه: (الحلف بعزة الله) والحلف بقوله: (لعمر الله)؛ فعلم أن ذلك ليس حلفا بغير الله، فأعطوا هذه الآيات المنصوصة حقها في اتباع عمومها الذي قد صرحت به، في أن الله خالق كل شيء؛ إذ قد عُلم أن الله ليس هو داخلا في المخلوق، وعلم أن صفاته ليست خارجة عن مسمى اسمه" انتهى من "مجموع الفتاوى"(12/ 329-330).
والحاصل:
أن صفات الله تعالى قائمة بذاته، لا تنفك عنها، فمن استعاذ بكمات الله، فهو مستعيذ بالله الموصف بالكلام، ومن استغاث برحمة الله، فهو مستغيث بالله الموصوف بالرحمة. وهذا معنى قول من قال: إن ذلك من التوسل بصفات الله.
ومعنى ذلك: أن من قال: أعوذ بالله، فقد استعاذ بالله. ومن قال: أعوذ بكلمات الله، فقد استعاذ بالله المتصف بالكلام، وهو توسلٌ إليه بكلماته. فلا يوجد في الخارج ذات منفكة عن صفاتها، فالله المدعو المستغاث: هو الذات المتصفة بالصفات، لكن الذهن يفرض المستحيل، فيفرض ذاتا مجردة عن الصفات، وصفات منفكة عن الذات، فلو قصد إنسان دعاء الصفة وحدها مجردة عن الذات أي منفكة عن الله فهذا هو الممنوع والمحرم بل الشرك.
وأكثر الناس لا يخطر بباله هذا المعنى- وهو دعاء الصفة المجردة- حتى لو قال: يا رحمة الله ارحميني.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " هل قول الإنسان: "يا رحمة الله " يدخل في دعاء الصفة الممنوع؟
فأجاب: إذا كان مراد الداعي بقوله: "يا رحمة الله" الاستغاثة برحمة الله - تعالى - ؛ يعني أنه لا يدعو نفس الرحمة، ولكنه يدعو الله - سبحانه وتعالى - أن يعمه برحمته: كان هذا جائزًا، وهذا هو الظاهر من مراده، فلو سألت القائل: هل أنت تريد أن تدعو الرحمة نفسها، أو تريد أن تدعو الله - عز وجل - ليجلب لك الرحمة؟ لقال: هذا هو مرادي.
أما إن كان مراده دعاء الرحمة نفسها، فقد سبق جوابه ضمن جواب السؤال السابق " انتهى من "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (2/164).
وكان قد بيَّن حكم دعاء الصفة في السؤال السابق (2/164) فقال رحمه الله:
"عبادة الإنسان لصفة من صفات الله ، أو دعاؤه لصفة من صفات الله من الشرك ، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، لأن الصفة غير الموصوف بلا شك وإن كانت هي وصفه...
وكذلك دعاء الصفة من الشرك مثل أن تقول: يا مغفرة الله اغفري لي، يا عزة الله أعزيني، ونحو ذلك" انتهى.
فالحاصل أن الممنوع هو دعاء الصفة المجردة عن موصوفها وهو الله تعالى، وهذا يوهم أن صفاته مستقلة قائمة بنفسه تعيذ أو تغيث، واعتقاد هذا كفر.
لكن من استعاذ بكلمات الله، أو استغاث برحمة الله، فإنه لم يستعذ ولم يستغث بالصفة المجردة، بل بالصفة القائمة بالله تعالى، فحقيقة أمره أنه استعاذ بالله الموصوف بالكلام، واستغاث بالله الموصوف بالرحمة، وذكرُ الكلام والرحمة توسل إليه بهما.
وينظر ما سبق تفصيله في جواب السؤال رقم:(185053)، ورقم:(272226).
والله أعلم.