الحمد لله.
أولا:
لا يجوز للإنسان أن يدعو على نفسه بالمرض ، أو بغيره من المصائب والآفات والشرور، أو النار أو العذاب؛ لما روى مسلم (3014) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ .
وروى مسلم (920) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ .
وروى مسلم (6288) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ، فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ، أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! لَا تُطِيقُهُ، أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ، أَفَلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ لَهُ، فَشَفَاهُ ".
وأما ما روى أحمد (1697) عن شهر بن حوشب الأشعري، عن رابه، - رجل من قومه كان خلف على أمه بعد أبيه ، كان شهد طاعون عمواس - قال: " لما اشتعل الوجع، قام أبو عبيدة بن الجراح في الناس خطيبا، فقال: " أيها الناس: إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه ". قال: فطعن فمات رحمه الله، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبا بعده فقال: " أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظه ". قال: فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ، فمات، ثم قام فدعا ربه لنفسه، فطعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول: " ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا ".
فقد ضعّفه الشيخ أحمد شاكر، والشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيقهما على المسند.
ثم إن هذا ، لو صح ، لم يكن الدعاء بنفس الشر أو المرض ، إنما يحمل ذلك على تمني الشهادة عند حضور أسبابها، وذلك جائز، والطاعون شهادة.
قال ابن رجب رحمه الله في بيان أقسام تمني الموت أو الدعاء على النفس بالموت: "ومنها: تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة ، اغتناما لحضورها، فيجوز ذلك أيضا .
وسؤال الصحابة الشهادة وتعرضهم لها عند حضور الجهاد كثير مشهور، وكذلك سؤال معاذ لنفسه وأهل بيته الطاعون لما وقع بالشام" انتهى من "لطائف المعارف" ص296
فمن حضر القتال فسأل الله الشهادة، جاز مع أنه دعاء على النفس بالموت، وكذلك من نزل الطاعون ببلده، فسأل الله أن يصيبه ليكون شهيدا.
روى البخاري (5733) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: المَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالمَطْعُونُ شَهِيدٌ .
قال في "عون المعبود شرح سنن أبي داود": "(المطعون) هو الذي يموت بالطاعون" انتهى.
وأما دعاء أبي بن كعب رضي الله على نفسه بالحمى فهو اجتهاد منه لتحصيل الأجر، ولهذا طلب في دعائه ألا تشغله عن حج ولا عمرة ، ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فلم يكن دعاؤه تسخطا ولا كرها في الحياة .
ومع ذلك فنحن مأمورون بسؤال العافية، لأننا قد لا نطيق ذلك.
روى أحمد (11183) عن أبي سعيد الخدري، قال: " قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: كفارات قال أبي: وإن قلت؟ قال: وإن شوكة فما فوقها " .
قال: فدعا أُبي على نفسه أن لا يفارقه الوعك حتى يموت ، في أن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة !!
فما مسه إنسان، إلا وجد حره ، حتى مات !! "
والحديث حسنه شعيب في تحقيق المسند.
ثانيا:
التداوي مباح ، أو مستحب ، ويجوز تركه والصبر والاحتساب.
عن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : " قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ : أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ : بَلَى. قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ ، أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي ، قَالَ : إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ ، فَقَالَتْ : أَصْبِرُ ، فَقَالَتْ : إِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ ، فَدَعَا لَهَا " رواه البخاري (5652) ، ومسلم (2576).
فهذا الحديث يدل على جوزا ترك التداوي في مثل هذه الحال، لمن قويت عزيمته وقدر على ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وَفِي الْحَدِيث فَضْل مَنْ يُصْرَع , وَأَنَّ الصَّبْر عَلَى بَلَايَا الدُّنْيَا يُورِث الْجَنَّة , وَأَنَّ الْأَخْذ بِالشِّدَّةِ أَفْضَل مِنْ الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ ، لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسه الطَّاقَة ، وَلَمْ يَضْعُف عَنْ اِلْتِزَام الشِّدَّة .
وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز تَرْك التَّدَاوِي .
وَفِيهِ أَنَّ عِلَاج الْأَمْرَاض كُلّهَا بِالدُّعَاءِ وَالِالْتِجَاء إِلَى اللَّه أَنْجَع وَأَنْفَع مِنْ الْعِلَاج بِالْعَقَاقِيرِ , وَأَنَّ تَأْثِير ذَلِكَ ، وَانْفِعَال الْبَدَن عَنْهُ : أَعْظَم مِنْ تَأْثِير الْأَدْوِيَة الْبَدَنِيَّة .
وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْجَع بِأَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا مِنْ جِهَة الْعَلِيل وَهُوَ صِدْق الْقَصْد , وَالْآخَر مِنْ جِهَة الْمُدَاوِي وَهُوَ قُوَّة تَوَجُّهه ، وَقُوَّة قَلْبه بِالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّل , وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى من "فتح الباري" (10/ 115).
وجمهور العلماء على عدم وجوب التداوي .
وذهب جماعة منهم إلى وجوبه إذا خشي الإنسان على نفسه التلف بتركه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ليس بواجب عند جماهير الأئمة ، إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد " نقله السفاريني في "غذاء الألباب" (1/459).
وقال الهيتمي في "تحفة المحتاج" (3/182) : " ونقل عياض الإجماع على عدم وجوبه ، واعتُرض بأن لنا وجهاً بوجوبه إذا كان به جرح يخاف منه التلف .
وفارق وجوب نحو إساغة ما غص به ، بخمر ، وربط محل الفصد ؛ لتيقن نفعه " انتهى .
وفي حاشيته : " عن البغوي : أنه إذا علم الشفاء في المداواة : وجبت " انتهى .
وفي "حاشية قليوبي وعميرة" (1/403) : " وقال الإسنوي : يحرم تركه في نحو جرح يظن فيه التلف كالقصد " انتهى .
وينظر جواب السؤال رقم : (2438) ، ورقم : (81973) .
والله أعلم.