الحمد لله.
أولا :
"الركاز" عند جمهور العلماء ، هو ما يعثر عليه المسلم من الأموال التي دفنت قديما ، قبل الإسلام.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى:
" الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَهُ: إِنَّ الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ دِفْنٌ يُوجَدُ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ، مَا لَمْ يُطْلَبْ بِمَالٍ، وَلَمْ يُتَكَلَّفْ فِيهِ نَفَقَةٌ، وَلَا كَبِيرُ عَمَلٍ وَلَا مَؤُونَةٍ .
فَأَمَّا مَا طُلِبَ بِمَالٍ، وَتُكُلِّفَ فِيهِ كَبِيرُ عَمَلٍ، فَأُصِيبَ مَرَّةً، وَأُخْطِئَ مَرَّةً، فَلَيْسَ بِرِكَازٍ " انتهى من "الموطأ" (1 / 250).
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" الركاز الذي يتعلق به وجوب الخمس : ما كان من دِفن الجاهلية. هذا قول الحسن، والشعبي، ومالك، والشافعي، وأبي ثور.
ويعتبر ذلك بأن ترى عليه علاماتهم، كأسماء ملوكهم، وصورهم وصُلُبَهم، وصور أصنامهم، ونحو ذلك.
فإن كان عليه علامة الإسلام، أو اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من خلفاء المسلمين، أو وال لهم، أو آية من قرآن أو شنحو ذلك: فهو لقطة؛ لأنه ملك مسلم ، لم يُعلم زواله عنه... " انتهى من "المغني" (4 / 232).
وراجع لمزيد الفائدة الجواب رقم : (83746) ، ورقم : (146191).
ثانيا :
أما بيع الركاز:
فإن من شروط صحة البيع أن يكون المبيع معلوما للبائع والمشتري ، لما رواه مسلم (1513) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
" والبيع في السنة والإجماع لا يجوز أن يكون مجهولا عند واحد منهما ، فإن لم يجز بأن يجهله أحد المتبايعين، لم يجز بأن يجهلاه معا " انتهى من"الأم" (4 / 205).
قال النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" :
"وَأَمَّا النَّهْي عَنْ بَيْع الْغَرَر : فَهُوَ أَصْل عَظِيم مِنْ أُصُول كِتَاب الْبُيُوع , وَيَدْخُل فِيهِ مَسَائِل كَثِيرَة غَيْر مُنْحَصِرَة ، كَبَيْعِ الْآبِق وَالْمَعْدُوم وَالْمَجْهُول وَمَا لَا يَقْدِر عَلَى تَسْلِيمه ، وَمَا لَمْ يَتِمّ مِلْك الْبَائِع عَلَيْهِ ..." انتهى .
وقال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (3/ 163) في بيان شروط صحة البيع: " الشرط (السادس: أن يكون المبيع معلوما لهما)؛ أي للبائع والمشتري؛ لأن جهالة المبيع غرر ، فيكون منهيا عنه، فلا يصح" انتهى .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"من شروط البيع: أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة ، أي: عند البائع والمشتري ، فلا يكفي علم أحدهما.
والجهل إما أن يكون منهما جميعاً، أو من البائع وحده ، أو من المشتري وحده ، وفي كل الصور الثلاث لا يصح البيع ؛ فلا بد أن يكون معلوماً عند المتعاقدين .
ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم (نهى عن بيع الغرر) . والمجهولُ بيعُه غرر لا شك.
فإن قيل: لماذا نهي عن الغرر؟
قلنا: لما يحصل به من العداوة والبغضاء والكراهية؛ لأن المغلوب منهما سوف يكره الغالب ، فلذلك نُهي عن بيع الغرر" انتهى من "الشرح الممتع" (8/147) .
فإن كان هذا الركاز قد حصل العلم به ، بأن يكون قد تم استخراجه من الأرض ، ثم دفنه فيها مرة أخرى ، ورآه المشتري ، أو وُصف له وصفا نافيا للجهالة : صح بيعه .
لكن .. إذا كان هذا الركاز ذهبا أو فضة – كما هو الغالب – وسيباع بالنقود ، فإنه لا يصح بيعه حتى يتم استخراجه ، وتسليمه للمشتري ، وتسليم الثمن للبائع في مجلس العقد ، لأن بيع الذهب بالنقود : يشترط له حصول التقابض من الطرفين في مجلس العقد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ... مِثْلا بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ) رواه مسلم (1587) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه .
وقبض الذهب إنما يكون بقبضه في اليد ، وليس بالتخلية بين المشتري وبين الأرض المدفون فيها الذهب .
قال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (3/288) :
"ويحصل القبض فيما يُتناول ، كالأثمان والجواهر : بتناوله ؛ إذ العرف فيه ذلك" انتهى .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"قوله: ويحصل قبض ما يتناول بتناوله أي: ما يتناول بالأيدي ، فإنه يحصل القبض بتناوله، مثل: الدراهم والجواهر والساعات والأقلام، فهذه نقلها باليد ؛ يناولها صاحبها" انتهى من "الشرح الممتع" (8/286) .
أما إذا كان الركاز لم يستخرج من الأرض ، وإنما عُلم به بطريقة ما ، ويريد صاحب الأرض بيعه قبل استخراجه : فإن هذا لا يجوز ، لما يلي :
أن هذا المال لا يمكن القطع بأنه ركاز أو لقطة؛ إلا بمعاينته؛ فقد يكون لقطة:
واللقطة: " شرعا؛ هي المال الضائع من ربه ، يلتقطه غيره، أو الشيء الذي يجده المرء مُلقى ، فيأخذه أمانة " انتهى من "الموسوعة الفقهية الكويتية" (35 / 295).
والواجب في اللقطة : ما جاء في حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ.
فَقَالَ: ( اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا ؛ وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا ) رواه البخاري (2372) ، ومسلم (1722).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" إذا وجد الإنسان ركازا ليس عليه علامة الكفر، ولا أنه من الجاهلية، فحكمه : إن علم صاحبه وجب رده إليه، أو إعلامه به، أي: إما أن تحمله إلى صاحبه، أو تعلمه، والأسهل هنا الإعلام؛ لأنه قد يكون ثقيلا يحتاج إلى حمل، فإذا أعلمته أبرأت ذمتك.
وإن كان صاحبه غير معلوم ، بحيث لم نجد عليه اسما، ولم نتوقع أنه لفلان، فإن حكمه حكم اللقطة يعرف لمدة سنة كاملة، فإن جاء صاحبه، وإلا فهو لواجده " انتهى من "الشرح الممتع" (6 / 90).
2 - الركاز قبل إخراجه ومعاينته: مجهول ، وبيع المجهول لا يصح ، لما تقدم من أن العلم بالمبيع شرط لصحة البيع .
3 - يجب على واجد الركاز أن يتصدق بخمسه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فِي الرِّكَازِ الخُمُسُ) رواه البخاري (1499)، ومسلم (1710).
فلذا لا بد من إخراج الركاز قبل بيعه؛ حتى يتمكن البائع من معرفة الحق الواجب عليه .
4 - أن الركاز لا يملك بملك الأرض ، وإنما هو ملك لواجده ، فصاحب الأرض لا يملك الركاز حتى يستخرجه ويحوزه ، أما قبل حيازته فلا يملكه ، ولذلك قال العلماء : لو استأجره لحفر بئر، فوجد ركازا ، فهو لواجده ، وليس لمالك الأرض ، وعللوا ذلك بـ "أن الركاز لا يملك بملك الأرض" انتهى من "كشاف القناع" (2/261) .
فلكل هذه الأسباب لا يجوز بيع الركاز قبل إخراجه وحيازته ومعرفة قدره .
والله أعلم.