هل يجوز للمؤذن أن يختص لنفسه من كراتين مياه الصدقة بأن يخبأها في مكان بالمسجد ؛ حتى لا يشرب منها إلا هو ؟
الحمد لله.
الأموال التي يتبرع بها المحسنون في أبواب البر المتنوعة تأخذ حكم الوقف ، من حيث وجوب التقيد بشروط المتبرع، وتحديد مصرف هذه الأموال .
قال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (4/260) :
"(وَ) يُرْجَعُ إلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي (قَسْمِهِ) أَيْ: الرِّيعِ (عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ) ، بِمَعْنَى : أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى شَرْطِهِ (فِي تَقْدِيرِ الِاسْتِحْقَاقِ) ؛ كَـ: عَلَى أَنَّ لِلْأُنْثَى سَهْمًا وَلِلذَّكَرِ سَهْمَيْنِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ: عَلَى أَنَّ لِلْمُؤَذِّنِ كَذَا، وَلِلْإِمَامِ كَذَا وَلِلْخَطِيبِ كَذَا وَلِلْمُدَرِّسِ كَذَا، وَنَحْوِهِ.
(وَ) يُرْجَعُ أَيْضًا إلَى شَرْطِهِ فِي (تَقْدِيمٍ، كَالْبُدَاءَةِ بِبَعْضِ أَهْلِ الْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ، نَحْوُ: وَقَفْتُ عَلَى زَيْدٍ، وَعَمْرٍو، وَبَكْرٍ، وَيَبْدَأُ بِالدَّفْعِ إلَى زَيْدٍ...
(وَ) يُرْجَعُ أَيْضًا إلَى شَرْطِهِ فِي (جَمْعٍ، كَجَعْلِ الِاسْتِحْقَاقِ مُشْتَرَكًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ) كَأَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَأَوْلَادِهِمْ. " انتهى .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (11/33) :
"ويَجِبُ العَمَلُ بِشَرْطِ الوَاقِفِ فِي جَمْعٍ وَتَقْدِيمٍ وَضِدِّ ذَلِكَ واعْتِبَارِ وَصْفٍ وَعَدَمِهِ وَتَرْتِيبٍ وَنَظَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ..............
قوله: ويجب العمل بشرط الواقف، أي: على من كان ناظراً على الوقف.
وقوله: بشرط الواقف، أي: بما شرط من وصف أو قيد أو إطلاق أو جهة أو غير ذلك، فلا يُرجع في ذلك إلى رأي الناظر، بل إلى ما شرط الواقف، فيُعمل به ، بشرط ألاّ يخالف الشرع.
والدليل: أن الله ـ عزّ وجل ـ قال في الوصية: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة/ 181، فبيَّن الله ـ تعالى ـ أن من بدل الشرط الذي اشترطه في نقل ملكه، بعدما سمعه: فعليه الإثم، وهدد من التبديل بقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
ومن السنة أن عمر ـ رضي الله عنه ـ اشترط في إيقافه في خيبر شروطاً ، ولولا أنه يجب تنفيذها لكان اشتراطه لها لا فائدة منه.
والتعليل: لأن الواقف أخرج ملكه عن هذا الموقوف على وصف معين، فلا يجوز أن يُتجاوز به إلى غيره" انتهى .
وقد سبق ذكر فتاوى بعض العلماء في هذا في جواب السؤالين : (4571) ، (10533) .
وينظر لمزيد الفائدة السؤال رقم : (115946) .
والذي يتبرع بكراتين مياه لمسجد ، إنما يقصد بذلك جميع أهل المسجد ، فكل من صلى في ذلك المسجد، فله الشرب من هذه المياه ، وهم في ذلك على حد سواء ، من غير تفضيل لبعضهم على بعض ، ولا حرمان لبعضهم.
وينظر للفائدة أيضا: جواب السؤال رقم : (270148) .
وعلى هذا ؛ فلا يجوز للمؤذن أن يخبئ بعض هذه الكراتين لتكون خاصة به ، فهذا منافٍ لشرط المتبرع ، وهو مع ذلك خيانة للأمانة ، إذا كان المتبرع قد ائتمن المؤذن على هذه الكراتين .
وخيانة الأمانة من صفات المنافقين ومن المحرمات العظام التي يستحق صاحبها العقاب الأليم والفضيحة والجزاء يوم القيامة .
وقد قال الله تعالى : وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ آل عمران/161 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ رواه البخاري (3073) ، ومسلم (1831) - واللفظ له -.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ فِي النَّارِ !! فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا.
رواه البخاري في "باب القليل من الغلول" من صحيحه (3074).
والله أعلم .