في جواب السؤال رقم (241200) قلتم: إن إثبات الصفات يستلزم نفي ضدها، لكن أحد أهل الباطل والتعطيل قال: يجب إثبات الصفات السبع فقط؛ لأن نفيها يستلزم النقص في حق الله تعالى، فلو انتفت صفة الحياة للزم منها إثبات الموت، ولو انتفت صفة العلم لوصف الله بالجهل، بينما لو نفينا صفة العين فما هي صفة النقص المضادة الكمال التي يجب إثباتها ؟
الحمد لله.
"صفات الله تعالى لها أقسام باعتبارات متعددة، فمن تلك التقسيمات، تقسيم الصفات إلى قسمين:
فصفات الله تعالى الثبوتية هي ما أثبت الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك.
فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به.
والصفات السلبية: ما نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات نقص في حقه، كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب. فيجب نفيها عن الله تعالى لما سبق مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده لا لمجرد نفيه، لأن النفي ليس بكمال إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، وذلك لأن النفي عدم، والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون كمالاً، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له فلا يكون كمالاً، كما لو قلت: الجدار لا يظلم. وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصا، كما في قول الشاعر:
قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمّة... ولا يظلمون الناس حبة خردل
وقول الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
مثال ذلك: قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ، فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته.
مثال آخر قوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً نفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله.
مثال ثالث: قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته، ولهذا قال بعده: إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً، لأن العجز سببه: إما الجهل بأسباب الإيجاد، وإما قصور القدرة عنه، فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض.
وبهذا المثال علمنا أن الصفة السلبية قد تتضمن أكثر من كمال." انتهى من"القواعد المثلى" (21 - 24) بتصرف.
قاعدة أهل السنة في إثبات صفات الله تعالى هي: "إثباتُ ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل."
وقاعدتهم في مسألة النفي في صفات الله تعالى: "نفيُ ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد ثبوت كمال ضده لله تعالى لأن الله أعلم بنفسه من خلقه، ورسوله أعلم الناس بربه؛ فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته، ونفي الظلم يتضمن كمال عدله، ونفي النوم يتضمن كمال قيُّوميَّته." انتهى من "صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة"، علوي السقاف (23).
ولا يجوز للإنسان أن ينفي ما أثبته الله لنفسه لأن ذلك "تعطيل" للكمال الواجب لله تعالى، فنفي هذه الصفات إيمان ببعض الكتاب وترك للبعض الآخر، وتفريق بين المتماثلات، وهو لا يفعله العقلاء.
وفي نص بديع لابن تيمية في "التدمرية" (139 - 146) يقول:
" كل ما نافى صفات الكمال الثابتة للَّه فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا عُلم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم - عُلم امتناع العدم والحدوث عليه، وعُلم أنه غني عمّا سواه، فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه ليس هو موجودًا بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه، فلا يوجد إلا به، وهو سبحانه وتعالى غني عن كل ما سواه، فكل ما نافى غناه فهو منزه عنه، وهو سبحانه وتعالى قدير قوي فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو سبحانه حيّ قيوم فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه.
وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفؤ، فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك، كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه.
فطرق العلم بنفي ما ينزه الرب عنه متسعة، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك وفرّقوا بين المتماثلين، حتى إن كل من أثبت شيئًا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه.
وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي، فقالوا: لا يقال موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي، لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم. فلزم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعًا، ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم ممّا فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عمّا هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا.
وقد تقدم أن ما يُنفى عنه سبحانه وتعالى - يُنفى لتضمن النفي الإثبات، إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجود، وليس هذا مدحًا له، لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلق، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه، ينزه عنه الرب تبارك وتعالى.
والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد عُلم أنه حيّ، والموت ضد ذلك فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسِّنَةُ ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، كذلك اللُّغُوب نقص في القدرة والقوة، والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك، يتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه، وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته أو أفعاله، فهو مفتقر إليه ليس مستغنيًا بنفسه، فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف، والمُصْمَتُ الصمد أكمل من الآكل الشارب، ولهذا كانت الملائكة صمدًا لا تأكل ولا تشرب.
وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق، فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك. والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب...
وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له، وما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك، لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفيًا وإثباتًا، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم "، انتهى، مختصرا.
صفة العين: من الصفات الخبرية الثابتة لله عز وجل، كما ثبتت له صفة اليد ونحوها من الصفات الخبرية، التي مدار القول فيها على ثبوت الخبر الوارد بها.
وانظر ما سبق في جواب السؤال رقم: (145166)، ورقم: (322661).
وليس من شرط هذه الصفات أن نقف على ما يضاد كل صفة منها، ولا المدار في إثباتها على ذلك، بل المدار في ذلك، إثباتا أو نفيا: إنما هو على الخبر الثابت عن المعصوم.
ومع ذلك؛ ففي خصوص هذه الصفة: قد الخبر على ما يضاد إثبات صفة العينين لله عز وجل، وهو "العور"، وهو نقص منفي عن الله جل جلاله، مستحيل عليه، سبحانه، وجل شأنه.
قال الإمام البخاري، رحمه الله:
" بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]، تُغَذَّى، وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14].
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ - وَإِنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) رواه البخاري في صحيحه (7407).
ورواه عقبه (7408) من حديث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ).
قال العلامة الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله:
" استدل البخاري بالآيتين والحديث على إثبات العين لله تعالى، وأهل السنة والجماعة يثبتون عينين لا تشبهان أعين المخلوقين، كقولهم في سائر الصفات، ويستدلون لذلك بمثل قوله تعالى: "تجري بأعيننا" وبحديث الدجال.
ووجه الاستدلال أن تنزيه الله تعالى عن العور في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم ليس بأعور" يدل على إثبات العينين لله تعالى وسلامتهما؛ فإن العور هو عمى إحدى العينين، لا عدم العين، خلافًا لما قاله ابن المنير في بيانه لوجه الاستدلال؛ حيث قال: "العور عرفًا عدم العين، وضد العور ثبوت العين".
وأما قوله: "وهو على سبيل التمثيل والتقريب للفهم لا على معنى إثبات الجارحة": فمعناه نفي حقيقة العين عن الله تعالى، وهذا هو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشاعرة.
ولفظ الجارحة لا يطلقه أهل السنة لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لأنه من الألفاظ المجملة المبتدعة، فلا يقولون: إن عينه جارحة، أو ليست جارحة. والنافون لحقيقة العين منهم من يفسرها بالبصر كأهل التأويل، ومنهم من لا يتعرض لها بتأويل بل يثبت اللفظ من غير فهم لمعناه، وهم أهل التفويض.
قال الشيخ البراك: قوله: "وأشار بيده إلى عينه": أي الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يخفى عليكم؛ إن الله ليس بأعور" هو نظير لما جاء في سنن أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قرأ هذه الآية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها... [إلى قوله تعالى] إن الله كان سميعًا بصيرًا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه... " [أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب (19) في الجهمية، ح 4728].
وهذه الإشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة المثبتين للعين، والسمع، والبصر، لبيان إرادة الحقيقة؛ فهو يسمع حقيقة ويبصر حقيقة، وكذلك له عين حقيقة، وكل ذلك على ما يليق به ويختص به سبحانه، لا يماثل في شيء من ذلك صفات المخلوق، وهذا هو الواجب في جميع ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذه الإشارة ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقبض يديه ويبسطهما لما ذكر أن الله تعالى يأخذ السماوات بيديه، وأن الله تعالى يقبض يديه ويبسطهما ويقول: "أنا الملك... " الحديث.
ومعلوم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن القبض والبسط من الله تعالى مثل قبضه صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وبسطه ليديه، وإنما أراد بيان أن الله يقبض يديه ويبسطهما حقيقة، وأما من لم يثبت العينين، ولا اليدين لله تعالى، فلا بد أن يتأول هذه النصوص بتأويلات تخرجها عن ظاهرها، أو يمسك عن تدبرها معتقدًا أنه لا سبيل إلى فهمها. وهي طريقة أهل التفويض من النفاة." انتهى من "التعليق على المخالفات العقدية في "فتح الباري".
والحاصل أن المدار في إثبات صفة العينين لله جل جلاله على ثبوت الخبر بها، لا على مجرد الاستخراج بالعقل لما يقتضيه نفيها، فإن صفات الله تعالى نفيا وإثباتا: إنما تؤخذ من الخبر المعصوم الوارد بها.
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله:
" وأما ما ادعيت في تفسير قوله: إن الله كان سميعا بصيرا: أنه إنما عنى: عالما بالأصوات عالما بالألوان، لا يسمع، ولا يبصر ببصر، ثم قلت: ولم يجئ خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره: "أنه يسمع بسمع، ويبصر ببصر، ولكنكم قضيتم على الله بالمعنى الذي وجدتموه في أنفسكم؟
فيقال لك أيها المريسي: أما دعواك علينا أنا قضينا عليه بالمعنى الذي وجدناه في أنفسنا: فهذا لا يقضي به إلا من هو ضال مثلك.
غير أن الله تبارك اسمه أخبر عن نفسه أنه، يسمع بسمع، ويبصر ببصر، واتصلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أخبار متصلة. فإن حرمك الله معرفتها فما ذنبنا؟
قال الله تعالى لموسى ولتصنع على عيني.
ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال فقال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور".
والعَوَر، عند الناس: ضد البصر. والأعور عندهم: ضد البصير بالعينين.".
انتهى، من "النقض على بشر المريسي" للإمام عثمان بن سعيد الدارمي.
وقال أيضا: " ففي تأويل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليس بأعور": بيان أنه بصير ذو عينين؛ خلاف الأعور. " انتهى (1/327).
والله أعلم.