هل ترى الملائكة الله تعالى في الآخرة؟
الحمد لله.
ليس في الكتاب والسنة ما يدل، صراحة، على أن الملائكة يرون الله تعالى في دار الدنيا، لا نفيا ولا إثباتا. ومثل هذه الأمور الغيبية ينبغي السكوت عنها، وترك الكلام فيها، إلا بخبر صحيح ؛ ظاهر الدلالة في الأمر، وعدم تكلف القول في ذلك، أو البحث فيه من غير برهان. قال الله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا الإسراء/36.
وأما في الآخرة: فالصحيح من كلام العلماء: أنَّ الملائكة يرون الله تعالى.
قال السفاريني، رحمه الله:
"ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْعِزُّ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ آكَامِ الْمَرْجَانِ وَابْنُ جَمَاعَةَ، إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا خِلَافُ التَّحْقِيقِ... ".
ثم قال: " وَفِي آخِرِ الْبُدُورِ السَّافِرَةِ لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ: وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةٌ بِمُؤْمِنِي الْبَشَرِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَرَوْنَهُ، وَاحْتُجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام: 103] ؛ فَإِنَّهُ عَامٌّ، خُصَّ مِنْهُ بِالْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ فِي الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَيَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ نَصَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى خِلَافِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِ الرُّؤْيَةِ: ذِكْرُ مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهُمْ - فَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ لِعِبَادَتِهِ أَصْنَافًا، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَمَلَائِكَةً قِيَامًا صَافِّينَ، مِنْ يَوْمَ خَلَقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَلَائِكَةً رُكُوعًا خُشُوعًا، مِنْ يَوْمَ خَلَقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ.
ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَةِ مَا عِنْدَهُمْ، مَلَكٌ مَا تَقْطُرُ دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا وَقَعَتْ مَلَكًا يُسَبِّحُ، وَمَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، لَا يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ، وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ كَمَا يَنْبَغِي لَكَ. " انْتَهَى.
وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ: أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ تَعَالَى، بَلْ وَمُؤْمِنُو الْجِنِّ:
أمَّا فِي الْمَوْقِفِ ؛ فَجَزْمًا مَعَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ. وأمَّا فِي الْجَنَّةِ، فَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى مَا يَظْهَرُ. بَلِ الظَّاهِرُ: أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ، إِلَّا أَنَّهُمْ دُونَ مُؤْمِنِي الْإِنْسِ فِي الرُّؤْيَةِ، فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ رُؤْيَةَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ فِي الْمَوْقِفِ حَاصِلَةٌ، حَتَّى لِمُنَافِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَأَمَّا الرُّؤْيَة فِي الْجَنَّةِ: فَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ، وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَرِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمْ، وَقَدْ جَزَمَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي اللَّطَائِفِ بِأَنَّ كُلَّ يَوْمِ عِيدٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ عِيدٌ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، يَجْتَمِعُونَ فِيهِ عَلَى زِيَارَةِ رَبِّهِمْ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فِيهِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] وَيَوْمُ الْجُمُعَةَ فِي الْجَنَّةِ يُدْعَى يَوْمَ الْمَزِيدِ،" انتهى، مختصرا من "لوامع الأنوار" (2/247-249)..
وقال "الرحيباني" رحمه الله: ".. مُؤْمِنِي الْجِنِّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، (وَيَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى هُمْ)، أَيْ: الْجِنُّ (وَالْمَلَائِكَةُ، قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَرَى اللَّهَ؟ قَالَ: نَعَمْ).
وَحَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ مُؤْمِنَهُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ؛ فَلَا مَانِعَ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ اللَّائِقُ بِفَضْلِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَنْ لَا يَحْرِمَ مَنْ أَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ النَّظَرَ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ تَتْمِيمًا لِلْمِنَّةِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ." انتهى من"مطالب أولي النهى" (1/ 643).
وقد ذكر "الإمام السيوطي" في "الحبائك" هذه المسألة: (1/ 265)، وقال بعد ذكر الخلاف: "ولكن الأرجح أنهم يرونه... وممن قال برؤية الملائكة ربهم من المتأخرين شمس الدين بن القيم وقاضى القضاة جلال الدين البلقيني، وهو الأرجح بلا شك". وينظر: "بريقة محمودية" (1/ 167)، "غمز عيون البصائر" (3/416).
وينظر جواب السؤال: (154221).
والله أعلم.