من شروط كتابة الرّوايات والقصص وبقيّة النّصوص الأدبيّة هو عدم وصف ما يثير الغرائز، فهل هذا يمنع وصف كلّ الأحداث الرومانسيّة؟ وهل يجوز وصف شكل (أبطال الرّواية مثلا.. الذّكر والأنثى على سواء) كذكر لون الشّعر والعينين وغيرها من التفاصيل؟ ما هو الوصف الّذي يجوز والذي لا يجوز؟ أرجو إعطاء مثال. وهل يجوز كتابة رواية عن واقع بلاد الكفر دون تحريم تصرّفاتهم كالرّوايات البوليسيّة المنتشرة؟ وما حكم قراءتها؟
الحمد لله.
أولا:
لا حرج في كتابة الروايات الخيالية إذا لم يكن فيها إفساد. وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم (159960).
ثانيا:
الضابط في المشروع وغير المشروع من هذه الروايات، هو أن يتفحص كاتبها أثرها على القراء وما ينتج عنها من فساد أو صلاح، فالشرع جاء لتحقيق المصالح وتكثيرها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما." انتهى من "مجموع الفتاوى" (20 / 48).
وقال رحمه الله تعالى:
"وتمام "الورع" أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية، فقد يدع واجبات ويفعل محرمات " انتهى. "مجموع الفتاوى" (10 / 512).
ووصف الأحداث العاطفية بين الرجل والمرأة، ووصف المرأة فيها، إن كان وصفا عاما للمرأة لا يتناول جوانب الإثارة منها، وإنما هو وصف لما تشترك فيه مع الرجل، كوصف لون البشرة والعين، ونحوه مما لا يثير شهوة، وكانت أحداث القصة لا تهدف إلى التعلق بالصور وعشقها، وإنما تهدف إلى نشر صفة المودة والرحمة بين الزوجين، والتعاطف بينهما، بحيث يجد القارئ نفسه يتشوق إلى الزواج لا إلى الفاحشة، فهذا لا حرج فيه، فتحقيق هذه المودة والرحمة بين الأزواج من مقاصد الشرع.
وأما إن كانت تهدف إلى نشر العشق والتشجيع عليه، فهذا من الباطل الذي يُجتنب لما فيه من دعوة إلى الفساد.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"وليعلم العاقل أنّ العقل والشرع يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدام المفاسد وتقليلها.
فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه مصلحةً ومفسدة، وجب عليه أمران: أمر علمى، وأمر عملي. فالعلميّ طلبُ معرفة الراجح من طرفَي المصلحة والمفسدة، فإذا تبيّن له الرجحان، وجب عليه إيثار الأصلح له.
ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية، بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدَّر فيه من المصلحة... " انتهى من "الداء والدواء" (ص 491 – 492).
وأما الروايات البوليسية التي يُتخيل وقوعها في البلدان الغربية، مع ما فيها من وصف لطريقة حياتهم المنكرة، فينظر الكاتب إلى ما يؤول إليه حال قارئها، فإن كان الوصف على وجه ينجذب فيه القارئ إلى ثقافات هذه البلدان الغربية، أو يؤدي إلى إلف القلب لها وعدم إنكاره، فهذا مناقض لمقصد الشرع في انكار المنكرات وتنفير القلوب منها.
عن أَبي سَعِيدٍ الخدري، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ رواه مسلم (49).
وإلف القلب لذكر المنكرات من المفاسد العظيمة.
عن أَبي خَالِدٍ سُلَيْمَانَ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ
قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا مَالِكٍ، مَا أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ؟ قَالَ: " شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ "، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا؟ قَالَ: "مَنْكُوسًا ". رواه مسلم (144).
فالحاصل؛ أن العمدة في معرفة مشروعية هذه الروايات من عدمها، يكون بالنظر إلى ثمراتها وما ينتج عنها من خير أو شر، من نفع أو ضرر.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى:
"الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية... وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها تذرع بفعل جائز، إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية، لكن مآله غير مشروع." انتهى من "الموافقات" (5 / 179 – 182).
وبكل حال، فهذه ضوابط كلية، ونظر عام، ويبقى تنزيل الحال على كل رواية، وكل كتاب، وكل بحث: بحاجة إلى نظر خاص، ينظر فيه، فربما تبين من النظر الخاص فيه، ما لا يدرك من هذه الضوابط الكلية.
وإذا راب المسلم من أمر ذلك شيء؛ فالأولى به أن يدع ما يريبه لما لا يريبه، ويعمل قلمه في الأمور النافعة، احتياطا لدينه.
لحديث النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ... رواه البخاري (52) ومسلم (1599).
وهكذا حال مطالعتها؛ فإن كانت تهون من شأن المحرمات، فعلى المسلم أن يجتنبها، وأما إن كان محتواها يركز على حل لغز الجريمة، ولا تحسّن ولا تجمّل في قلب القارئ حياة الغرب وثقافتهم، فلا حرج من مطالعتها.
وإن كان الذي ينبغي على العاقل ألا يتوسع في ذلك الباب، ولا يستغرق فيه نفيس وقته، لأنها تشغل عما هو أنفع؛ والعمر أنفس ما يعنى المرء بشغله بما هو نافع، بل بما هو أنفع وأبقى.
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (174829) ورقم (331090) ورقم (225910)
والله أعلم.