لطالما أقلقني مصير الكفار، وخلودهم في النار، كما أعلم إن من لم يسمع شيئا عن الدين، تقام عليه الحجة بأن يختبره الله تعالى يوم القيامة. سؤالي هو: هل يجوز تجنب دعوة الكفار في بلاد الكفر إلى الدين في حال غلب الظن أنهم لن يؤمنوا؛ من أجل أن لا تقوم عليهم الحجة؟ فأنا أخاف أن يكونوا ممن مصيرهم أن يُختبروا يوم القيامة، فآتي وأخبرهم بالدين فلا يسلمون، ويصبحون مخلدين في النار بدلا من أن يكون لهم فرصة في أن يفوزوا باختبار يوم القيامة؟
الحمد لله.
أولًا:
لا شك أن حرصك على نجاة النفوس من عذاب الله هو حرص تُحمد عليه،
عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: " أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَقَالَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ يَهُودِيٌّ ؟ فَقَالَ: (أَلَيْسَتْ نَفْسًا) رواه مسلم(960).
ثانيًا:
هذا الشعور النبيل أراد منا الله سبحانه أن نأخذه ونوظفه في الدعوة إلى الله والحرص على هداية الناس، قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) آل عمران/187.
قال ابن عطية: "الآية عامة في كل من علمه الله علما، وعلماءُ هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" انتهى من "المحرر الوجيز" (1/551).
ويقول تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل/125.
قال ابن كثير في "تفسيره"(2/591-592): "وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ؛ أي: قدم علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير، عليك البلاغ، وعلينا الحساب، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ القصص/56 لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ البقرة/272".
ومن هذه الآيات وتفسير ابن كثير لها تعلم أن ما لديك من الخوف عليهم هو خروج عن دائرة ما كلفك الله به، ومحاولة منك للتحكم في مصائرهم على وجه لا يشرعه الله لك، فالله سبحانه أعلم بكل واحد منهم، فمن كان مقدرًا له الهداية سيهتدي وينجو ومن لم يكن قد قدر الله له الهداية فلن يهتدي ولن ينجو، وما نحن ولا أنت ولا اختبار يوم القيامة إلا أسباب.
وبمنطق تفكيرك: ما يدريك إذا تركته أنت فلم تدعه أنه سيبقى حتى الاختبار ولن يأتي آخر ويدعوه؟
وما يدريك لعلك لو دعوته لاستجاب أو غرست بذرة داخله أثمرت الاستجابة بعد حين ولربما لو تركت دعوته لأدى الاختبار إلى دخوله النار؟
أرأيت كل هذه الاحتمالات المبنية على منطقك في التفكير وأنها تظهر أن هذا المنطق غير سليم ولا ضمانة فيه لما تظنه وترجوه؟
الواجب أن تؤدي أنت ما كُلفت به، فهذا هو ما سيسألك الله عنه، وأن تترك جريان الأمور بيد خالقها ومصرفها سبحانه.
وتأمل معنا كيف يخاطب الله نبيه عليه الصلاة والسلام فيقول له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) الكهف/6.
يقول ابن كثير: "يقول تعالى مسليًا رسوله صلى الله عليه وسلم في حزنه على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ فاطر/8، وقال وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ النحل/127 وقال لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ الشعراء/3؛ باخع: أي مهلكٌ نفسك بحزنك عليهم؛ ولهذا قال فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن أَسَفًا يقول: لا تهلك نفسك أسفًا. قال قتادة: قَاتِل نَفْسَكَ غضبًا وحزنًا عليهم. وقال مجاهد: جزعًا. والمعنى متقارب، أي: لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" انتهى، من "تفسيره(3/73).
ويقول تعالى: (إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)الشعراء/4
قال ابن كثير: "أي: لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكَّنا لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري؛ وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بونس/99، وقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ هود/118-119، فنَفَذ قَدَرُه، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم" انتهى من "تفسيره" (3/331).
ليس على الرسل إلا البلاغ، وليس على ورثتهم من العلماء والدعاة إلا البلاغ، وليس علينا أن نتحكم في الطريقة التي يهتدي بها الناس فنقدر لذلك المقادير ونرسم له الخطط؛ لأنه لا توجد أية ضمانات، والمحكم هو أن الله لا يظلم الناس شيئًا، وأن الله سيسأل كل واحد منا عن مهمته التي كلفه بها وهي في حالتنا الدعوة والبلاغ ولم يكلفنا الله غير ذلك ولن يسألنا سوى عن ذلك.
ولو أن هذا الخاطر الذي جاء السائل الكريم، والرقة الزائدة، قد حملته على التفكير في ترك دعوة الكفار؛ لو كان خاطرا محمودا، مرضيا؛ لكان مقتضى ذلك : أن ترك البشر كلهم من غير دعوة ، ومن غير إرسال الرسل، وإنزال الكتب: أنفع لهم، وأرحم بهم؛ ولا شك أن هذا غلط فاحش، ومضادة عظيمة لمراد الله في خلقه، وحكمته من إنشائهم، وإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب.
والله جل جلاله، هو الرحمن الرحيم، أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأنبياؤه المرسلون، أعظم البشر رحمة بالخلق، وأنصحهم للخلق. ولا شك أن مشاعر الإنسان النبيلة، متى انحرفت عن مسارها، كانت مظاهر نقص، ومذمة في حقهم؛ فكيف إذا كانت مضادة لمقصود الله في خلقه، وسننه الشرعية والكونية.
إن الله جل جلاله يحب العذر للخلق، ولأجل محبته للعذر: أرسل الرسل، ولم يحاسب البشر على مقتضى عقولهم، وأفكارهم؛ بل أقام عليهم حجته بأنبيائه المرسلين.
قال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) الأنعام/163-166.
وقال تعالى: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) المائدة/119.
وكما أن الشيطان قد زين لك هذا الخاطر، لأجل ما تتوهم من بقاء فرصة النجاة لهم في الآخرة، فبنفس القدر، قد فوت عليهم فرصة الهداية والانتفاع بنور الوحي، وهم في دار الاختبار والابتلاء، قبل أن ينتقلوا إلى الآخرة، وأهوالها.
ثم من أدراك، ومن أدرى الناس، والعلماء والدعاة والهداة، وحتى الأنبياء؛ من أدرى هؤلاء جميعهم بمن يهتدي، ممن يرد الهداية، ولا يقبلها؛ إنما مرد العلم بذلك، والقدرة على ذلك: إلى رب العالمين وحده:
قال الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القصص/56.
وقال الله تعالى، مبينا من هو أهل لشكر نعمة الهداية والتوفيق: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الأنعام/53.
إن كتمان الحق والهدى عن الناس: جناية عليهم، بتركهم في عمايتهم، وحجب نور الهدى والحق عنهم، وتفويت فرص انتفاهم؛ ثم هو مضادة لحكمة الله من الخلق، وإرسال الرسل.
وقد جمع الله تعالى بين هاتين الحكمتين العظيمتين من بيان الحق، ودعوة الخلق إليه: طلب هدايتهم وانتفاعهم بذلك، وإقامة الحجة عليهم، وقطع معذرتهم، إذا خالفوا الهدى بعد ما تبين لهم.
قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الأعراف/164.
والحاصل:
أن دعوة الخلق إلى الحق، ودلالتهم على نور النبوة، وإرشادهم إلى صراط الله المستقيم: هي حكمة عظيمة لله في خلقه، وإرسال رسله، ولا يجوز كتمان الهدى، ونقض الميثاق مع الله، لأجل تلك الخواطر الغالطة في نفس الأمر، والتي تفوت مصالح أعظم مما تتوهم إدراكه، إن أدركت شيئا!!
وراجع للفائدة جواب السؤال رقم: (118144)، والسؤال رقم: (12376).
والله أعلم