الحمد لله.
أولًا:
الزنا من كبائر الذنوب؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا الإسراء/32، ويقول أيضًا: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً الفرقان/68.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أخرجه البخاري(2475)، ومسلم(57).
ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم: (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه) أخرجه أبو داود(2690)، والترمذي(2625).
ثانيًا:
مع أن الزنا من كبائر الذنوب فإن الله سبحانه تعالى يغفره بالتوبة، فإنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر حرمة الزنا قال: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا الفرقان/70.
ويقول سبحانه وتعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الزمر/53.
قال ابن كثير في تفسيره (4/58): "في هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة، من الكفرة وغيرهم، إلى التوبة والإنابة. وإخبارٌ بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا، لمن تاب منها ورجع عنها، مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر" انتهى.
ثالثًا:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: ( أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)، قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ؛ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ). قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ).
أخرجه البخاري(4477)، ومسلم (86).
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ، إِلَّا وُقِفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ، فَمَا ظَنُّكُمْ؟ ) رواه مسلم (1897).
فقد دل هذان الحديثان على أن للزوج حقًا في ذمة الزاني، ولأجل ذلك عظَّم حق هذين النوعين من الأزواج، وإلا لما كان هناك فرق بين الزنا بزوجة المجاهد، أو زوجة الجار، والزنا بغيرهن من الزوجات؛ فلما عظم حق هاتين الزوجتين، وعظم الزنا بهما، ورهب منه كل هذا الترهيب، دل على أن للزوج حقا في ذلك، وأنه كلما عظم حق الزوج، كان الزنا بزوجته أعظم وأشنع.
قال الإمام السرخسي: " فِيهِ بَيانُ عِظَمِ حُرْمَةِ المُجاهِدِينَ، لِأنَّ زِيادَةَ حُرْمَةِ النِّساءِ؛ لِزِيادَةِ حُرْمَةِ الأزْواجِ. وإلَيْهِ أشارَ اللَّهُ تَعالى فِي قَوْلِهِ: وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وفِي قَوْله تَعالى: نُؤْتِها أجْرَها مَرَّتَيْنِ " انتهى، من "شرح السير الكبير" (1/22).
وقال القرطبي، رحمه الله: "وظَهَرَ مِن هذا الحديث: أن خيانةَ الغازي في أهله أعظمُ من كل خيانةٍ؛ لأن ما عداها لا يُخير في أخذ كل الحسنات؛ وإنما يأخذُ بكلّ خيانةٍ قدرًا معلومًا من حسنات الخائن." انتهى، من "المفهم" (3/732).
ثم هذا أيضا معنى معقولٌ في نفسه، تدركه العقول والفطر؛ أن الزنا بحليلة الرجل، جناية عظيمة عليه، أشد من الجناية على ماله، بل وأشد من ضربه، وشتمه، وإهانته بأنواع الإهانات؛ فإن ذلك كله قد ينجبر، ويندمل؛ والزنا بزوجة الرجل لا جبر له، وجرح نازف لا اندمال له!!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، في تقرير وجوه الحق في ذلك:
"فهذا كله يبين أن الداعي ليوسف إلى ترك الفاحشة، كان خوف الله، لا خوفا من السيد، فلهذا قال: إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ قيل: هذا مما يبين محاسن يوسف ورعايته لحق الله، وحق المخلوقين، ودفعه الشر بالتي هي أحسن؛ فإن الزنا بامرأة الغير فيه حقان مانعان، كل منهما مستقل بالتحريم.
فالفاحشة حرام لحق الله، ولو رضي الزوج.
وظلم الزوج في امرأته: حرام لحقه؛ بحيث لو سقط حق الله بالتوبة منه، فحق هذا في امرأته لا يسقط، كما لو ظلمه وأخذ ماله، وتاب من حق الله؛ لم يسقط حق المظلوم بذلك.
ولهذا جاز للرجل إذا زنت امرأته أن يقذفها ويلاعنها، ويسعى في عقوبتها بالرجم" انتهى، من "مجموع الفتاوى" (15/121-122).
وقال ابن القيم:
" ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة.
فإنّ التوبة، وإن أسقطَتْ حقَّ الله؛ فحقُّ العبد باقٍ، له المطالبةُ به يومَ القيامة.
فإنّ ظلمَ الوالد بإفساد فلذة كبده، ومن هو أعزُّ عليه من نفسه، وظلمَ الزوج بإفساد حبيبته، والجنايةِ على فراشه: أعظمُ من ظلمه بأخذ ماله كلّه.
ولهذا يؤذيه ذلك أعظمَ مما يؤذيه أخذُ ماله، ولا يعدل ذلك عنده إلا سفكُ دمه. فيا له من ظلمٍ أعظمَ إثمًا مِن فعلِ الفاحشة!" انتهى، من "الداء والدواء" (501-502).
وفي "الزواجر عن اقتراف الكبائر" لان حجر الهيتمي رحمه الله، قال:
"رأيت في منهاج العابدين للغزالي: أن الذنوب التي بين العباد في العرض، فإن اغتابه أو شتمه أو بهته؛ فحقه أن يكذب نفسه بين يدي من فعل ذلك معه؛ إن أمكنه، بأن لم يخش زيادة غيظ، أو هيج فتنة في إظهار ذلك.
وإن خشي ذلك، فالرجوع إلى الله ليرضيه عنه.
وأما في حرمه؛ فإن فتنه في أهله أو ولده أو نحوه؛ فلا وجه للاستحلال والإظهار؛ لأنه يُولِّد فتنة وغيظا؛ بل يتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنه، ويجعل له خيرا في مقابلته.
فإن أمن الفتنة والهيج - وهو نادر - فليستحل منه.
قال الأذرعي: وهو في غاية الحسن والتحقيق.
وقضية ما ذكره في الحُرَم، الشامل للزوجة والمحارم، كما صرحوا به: أن الزنا واللواط فيهما حق للآدمي؛ فتتوقف التوبة منهما على استحلال أقارب المزني بها، أو الملوط به، وعلى استحلال زوج المزني بها.
هذا إن لم يخف فتنة؛ وإلا فليتضرع إلى الله في إرضائهم عنه.
ويوجه ذلك بأنه لا شك أن في الزنا واللواط إلحاق عار، أيّ عار، بالأقارب، وتلطيخ فراش الزوج؛ فوجب استحلالهم حيث لا عذر." انتهى بتصرف، من "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/377).
رابعًا:
كيف تتعامل مع هذا الحق الذي عليك؟
لا شك أن استحلال الزوج، صاحب الحق، أو أهل المزني بها: فيه فتنة عظيمة، ولا يكاد يسلم من شر، يزيد على ما يتوهم فيه من مصلحة؛ هذا لو قدر أنه بالإمكان أن يحلله صاحب الحق من حقه، فإذا كانت الأخرى، وهو المنطقي، والمتوقع: أنه لا يحله، بل يزيد بغضا له، وضغينة عليه، لم يبق هناك مصلحة ترجى من إخبار الزوج وغيره من أهل الزوجة، أو استحلالهم.
لكن عليه أن يجتهد في الإحسان إلى أصحاب الحق، من زوج وغيره، والدعاء لهم، والصدقة عنهم؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (18/ 189): "فقد قيل: من شرط توبته إعلامه وقيل: لا يشترط ذلك، وهذا قول الأكثرين وهما روايتان عن أحمد، لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات كالدعاء له، والاستغفار وعمل صالح يهدي إليه، يقوم مقام اغتيابه وقذفه". انتهى.
وقال أيضا:
" سُئِلْتُ عَنْ نَظِيرِ هَذِهِ المَسْألَةِ، وهُوَ رَجُلٌ تَعَرَّضَ لِامْرَأةِ غَيْرِهِ فَزَنى بِها، ثُمَّ تابَ مِن ذَلِكَ، وسَألَهُ زَوْجُها عَنْ ذَلِكَ، فَأنْكَرَ فَطَلَبَ اسْتِحْلافَهُ، فَإنْ حَلَفَ عَلى نَفْيِ الفِعْلِ كانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا، وإنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ، وإنْ أقَرَّ جَرى عَلَيْهِ وعَلَيْها مِن الشَّرِّ أمْرٌ عَظِيمٌ؟
فَأفْتَيْتُهُ: أنَّهُ يَضُمُّ إلى التَّوْبَةِ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى، الإحْسانَ إلى الزَّوْجِ بِالدُّعاءِ والِاسْتِغْفارِ، والصَّدَقَةِ عَنْهُ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يَكُونُ بِإزاءِ إيذائِهِ لَهُ فِي أهْلِهِ، فَإنَّ الزِّنا بِها تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعالى، وحَقُّ زَوْجِها مِن جِنْسِ حَقِّهِ فِي عِرْضِهِ، ولَيْسَ هُوَ مِمّا يَنْجَبِرُ بِالمِثْلِ كالدِّماءِ والأمْوالِ، بَلْ هُوَ مِن جِنْسِ القَذْفِ الَّذِي جَزاؤُهُ مِن غَيْرِ جِنْسِهِ، فَتَكُونُ تَوْبَةُ هَذا كَتَوْبَةِ القاذِفِ، وتَعْرِيضُهُ كَتَعْرِيضِهِ، وحَلْفُهُ عَلى التَّعْرِيضِ كَحَلْفِهِ. وأمّا لَوْ ظَلَمَهُ فِي دَمٍ أوْ مالٍ فَإنَّهُ لا بُدَّ مِن إيفاءِ الحَقِّ فَإنَّ لَهُ بَدَلًا، وقَدْ نَصَّ أحْمَدُ فِي الفَرْقِ بَيْنَ تَوْبَةِ القاتِلِ وبَيْنَ تَوْبَةِ القاذِفِ.
وهَذا البابُ ونَحْوُهُ فِيهِ خَلاصٌ عَظِيمٌ وتَفْرِيجُ كُرُباتٍ لِلنُّفُوسِ مِن آثارِ المَعاصِي والمَظالِمِ فَإنَّ الفَقِيهَ كُلَّ الفَقِيهِ الَّذِي لا يُؤْيِسُ النّاسَ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ عز وجل، ولا يُجَرِّئُهُمْ عَلى مَعاصِي اللَّهِ تَعالى. وجَمِيعُ النُّفُوسِ لا بُدَّ أنْ تُذْنِبَ، فَتَعْرِيفُ النُّفُوسِ ما يُخَلِّصُها مِن الذُّنُوبِ مِن التَّوْبَةِ، والحَسَناتِ الماحِياتِ، كالكَفّاراتِ والعُقُوباتِ: هُوَ مِن أعْظَمِ فَوائِدِ الشَّرِيعَةِ" . انتهى، نقله عنه تلميذه ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/67)، وينظر الفصل بطوله في هذا الكتاب، وما نقله عن شيخ الإسلام وغيره، فإنه مفيد نافع.
ويُنظر جواب السؤال رقم: (6308).
والله أعلم.