الحمد لله.
أولًا:
تعريف الاستشارة واتخاذ القرار:
1- الاستشارة: عرفها ابن عاشور: بأنها هي الاستعانة برأي المستشارين. انظر: "التحرير والتنوير" (4/147).
والاستشارة هي: عملية تنقيح الأفكار وتوحيد الرؤى في قضية معينة للوصول إلى قرار موحد وصائب في تلك القضية.
وفي كل مرحلة من مراحل اتخاذ القرار لا يوجد ما هو أفضل من الحصول على المشورة ممن يمتلكون الخبرة. قد يكون هؤلاء أشخاصًا خاضوا تجارب مماثلة لما تطمح إليه، أو حققوا النجاح في المجال المرتبط بقرارك، أو قد يكونوا متخصصين مدربين لمساعدتك في نفس المجال.
استعن بهؤلاء المتخصصين في تحديد الخيارات المتاحة أمامك، وجمع المعلومات عنها وتقييمها، وكذلك لتقييم إمكانياتك وقدراتك ومقارنتها بما هو مطلوب لاتخاذ قرارات جيدة.
واجعل غايتك من طلب المشورة نيل أكبر قدر ممكن من المعرفة عن غايتك وعن إمكاناتك، إلى جانب رؤية صورة أوضح للموقف بشكل عام والحصول على المقترحات واستبعاد الخيارات غير المناسبة. من شأن كل ذلك أن يمنحك المزيد من الثقة عند اتخاذ القرار الذي يجب أن يكون قرارك أنت في النهاية.
ثانيًا:
الاستشارة والاستخارة من أدوات اتخاذ القرار.
الاستخارة والاستشارة مطلوبتان، وقد جاءت النصوص الدالة على ذلك.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله معلقاً على ما بوب له النووي رحمه الله في كتاب الأذكار (باب الاستخارة والمشاورة): "الاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خلق ضعيفا، فقد تُشكل عليه الأمور، وقد يتردد فيها فماذا يصنع. انتهى، من "شرح رياض الصالحين لابن عثيمين" (4/159).
وقد ورد عند الطبراني – برقم 980 - مرفوعاً بسند ضعيف جداً (ما خاب من استخار ولا ندم من استشار) . قال الشيخ الألباني – في "السلسلة الضعيفة" (611) : "موضوع".
لكنه مع ذلك: فهو كلام صحيح المعنى في نفسه، كما قال الشيخ ابن باز رحمه الله.
قال ابن الحاج رحمه الله: "فعلى هذا فمن ترك الاستخارة والاستشارة: يُخاف عليه من التعب فيما أخذ بسبيله لدخوله في الأشياء بنفسه، دون الامتثال للسنة المطهرة، وما أحكمته في ذلك؛ إذ إنها لا تستعمل في شيء إلا عمته البركات، ولا تترك من شيء إلا حصل فيه ضد ذلك. نسأل الله السلامة" انتهى، من "المدخل لابن الحاج" (4/43).
وانظر في العلاقة بين الاستخارة والاستشارة والترتيب بينهما جواب السؤال رقم: (
440047)
2- اتخاذ القرارات: هو عملية الاختيار الناجح بين قرارين، وعرَّفه بعض الدارسين بأنه: "الناتج النهائي لحصيلة مجهود متكامل من الآراء، والأفكار، والاتصالات، والجدل، والدراسات التي تمت في مستويات مختلفة في المنظمة" انتهى، من "اتخاذ القرار في تسيير الموارد البشرية خلاصي مراد" (76-78).
ثالثًا:
مراحل الاستخارة والاستشارة مراحل أساسية في اتخاذ القرار، إلا أنها قد تتحول إلى أدوات للمماطلة في اتخاذ القرار، ولذلك سنبسط هنا الحديث عن عملية اتخاذ القرار وكيف ينبغي أن تسير بعيدًا عن الغرق في بحور الحيرة والوقوع في أسر المماطلة.
هل تعلم أنك تتخذ عشرات القرارات يوميًا؟ تفعل ذلك عندما تغادر الفراش في الصباح أو تذهب إلى المدرسة أو الجامعة أو تتناول طعامك. لقد فاضلت في كل مرة بين خيارين أو أكثر، ولكنك قد لا تشعر بالأمر لأنها أصبحت أفعالًا نمطية.
هناك بالتأكيد قرارات تحتاج لمزيد أناةٍ وتفكير، لاسيما تلك القرارات الجوهرية ذات الشأن، مثل: اختيار مسارك الدراسي، أو قبول عرض عمل أو الانتقال إلى منزل جديد أو اختيار زوج...إلخ
وفي كثير من الأحيان قد تجد نفسك مذبذبًا في اتخاذ القرار. وليست الحيرة بالأمر السيئ، لا سيما إذا كان القرار مهمًا ومؤثرًا في مستقبلك، فمن المفترض أنه سيحثك على الأناة والتفكير والمداولة قبل اتخاذه.
تقع المشكلة عندما تكون الحيرة مزمنة، وتدفعك في كل مرة تحتاج فيها لاتخاذ قرار إلى تفكير مفرط يستنفذ وقتك وفكرك.
وإنك إن لم تستطع حسم قراراتك، فسوف يكون ذلك معيقا لتطورك، وليس ذلك فقط على المستوى الشخصي، بل على المستوى المهني أيضًا.
فالأشخاص القادرون على اتخاذ القرارات، يكونون أكثر ثقةً وقدرةً على تحديد أهدافهم، وبناء العلاقات الناجحة، وتولي المناصب القيادية، بينما المرء دائم الحيرة يكون في غالب أمره أقل ثقة بنفسه، ويضيع على نفسه فرصًا للتقدم كثيرةً، وقد يكون لذلك تأثيرٌ على أدائه في العمل أيضًا.
ما المطلوب منك قبل اتخاذ القرارات المهمة؟
1- انتبه لعواطفك: قبل اتخاذك أي قرار مؤثر في مستقبلك، أو حتى تقييم الخيارات المتاحة أمامك، فإن من الواجب أن تنتبه لعاطفتك ومشاعرك وتأثيرهما على قراراتك.
لا تكن عجِلًا ومعتمدًا على عاطفتك فحسب. ولا تتخذ قراًرا وأنت غاضبٌ مثلًا، فغالبًا ما يكون ذلك القرار الأسوأ.
بل توقف والتقط أنفاسك. تريث قليلًا قبل اتخاذ قرارك.
أحد الأساليب التي يمكنك تجربتها لمواجهة مشكلة التسرع في اتخاذ القرار وأنت تواجه مشاعر سلبية، هي أن تتخذ القرار بالفعل، وذلك بكتابة الخيارات وعرضها بشكل واضح والسير في عملية فرز منهجية للوصول لأنسب الخيارات.
2- تخلص من التوتر والإجهاد.
التفكير المفرط من أبرز أسباب الحيرة في اتخاذ القرارات. يرى الكاتب نيك ترينتون في كتابه (توقف عن التفكير المفرط): أن التوتر والإجهاد من أبرز أسباب التفكير المفرط، وينصح بالتخلص من مسببات هذه الضغوط أو على الأقل إدارتها بشكل جيد بغيةَ الوصول إلى الحالة الذهنية المناسبة التي تستطيع خلالها التفكير بوضوح. ويقترح أساليب عديدة لترتيب أفكارك ومواجهة التفكير المفرط مثل: كتابة مذكراتك وتنظيم وقتك، إلى جانب ترتيب أولوياتك ووضع أهداف ذكية.
3- ضع حدًا زمنيًا:
إذا كنتَ منوطًا باتخاذ قرار مهم وأمامك وقت كافٍ للتفكير، فقد تميل للمماطلة والانتظار حتى اللحظات الأخيرة، وهو ما سيزيد من توترك ويُجهدك، وبالتالي ربما تختار حينها الخيار غير المناسب. أحد الحلول لمواجهة ذلك هو وضع حد زمني لاتخاذ القرار خلاله، مع وضع خطة واضحة لاستخدام الوقت المتاح في تقييم خياراتك، حتى لا تضيعه في القيام بأمور غير مهمة.
4- ابتعد عن أي مشتتات: احرص على أن تكون البيئة المحيطة بك منظمة، وخالية من أي شيء قد يشوش تفكيرك ويفقدك التركيز. لا تقيم خياراتك أو تتخذ قرارا مصيريًا مثلًا وأنت تشاهد مباراة كرة قدم، أو تتصفح وسائل التواصل الاجتماعي.
تجنب التالي عند اتخاذ أي قرار:
القرار العقلاني:
إن خطوات اتخاذ أي قرار عقلاني متشابهة إلى حد كبير.
•في البداية، تواجه موقفًا يكون عليك خلاله اتخاذ قرار للمفاضلة بين خيارين أو أكثر من أجل حل مشكلة، أو مواجهة تحدٍ ما، أو اقتناص فرصة.
•تتعرف على جميع الخيارات المتاحة للاستجابة لهذا الموقف.
•تُقيّم كل خيار متاح أمامك.
•تحدد خيارًا واحدًا وتشرع في تنفيذه.
•تُقيّم نتائج قرارك بعد فترة محددة.
•تتخذ قرارًا جديدًا إما بالاستمرار فيما بدأته أو تعديل مسارك أو اعتماد خيار مختلف.
رابعًاً:
ما أسباب الحيرة؟
الخطوة الأولى نحو التخلص من الحيرة هي تحديد أسبابها.
ربما تكون مذبذبًا في اتخاذ قرار ما بسبب عدم قدرتك على رؤية الخيارات بوضوح، إما لنقص المعلومات المتاحة عنها أو عدم امتلاكك الخبرة الكافية لتقييمها.
وفي أحيان كثيرة يكون السبب هو خوفك من عدم سير الأمور كما خططت لها في المستقبل، سواء كان ذلك بسبب ظروف خارجة عن سيطرتك، أو قلة ثقتك في قدراتك وإمكانياتك. كما قد يكون السبب أن جميع الخيارات متساوية في المحاسن والمساوئ.
الخطوة الثانية: تعرف على كل الخيارات المتاحة:
قبل أن تبدأ عملية التقييم، لا بُدَّ أن تحدد كل الخيارات المتاحة.
إذا كان الموقف الذي تحتاج لاتخاذ القرار بشأنه، يتطلب المفاضلة بين خيارين فقط، كأن تقبل عرض عمل أو ترفضه، فالأمر واضح.
ولكن إذا كانت هناك خيارات عديدة، فعليك التأكد من أنك قمت بالفعل بحصرها جميعًا، ولم تستبعد أي خيارات خلال هذه المرحلة.
الخطوة الثالثة: تقييم الخيارات:
ينبغي أن تكون لديك خطة لتقييم خياراتك خلال مدة زمنية محددة حتى لا تماطل.
ومن المسلّم به أنك تعرف جيدًا ما هي أولوياتك وقيمك قبل أن تبدأ في تقييم الخيارات المتاحة أمامك، وأنك قد حددت بالفعل مرادك الشخصي والمهني وما تطمح إليه. استبعد من البداية أي خيارات لا تتوافق معهم حتى لا يذهب وقتك هباءً.
الخطوة الرابعة لتقييم خياراتك هي جمع كافة المعلومات الممكنة عن كل منها. كلما علمت أكثر، كنت أكثر ثقة عند اتخاذ القرار، ولكن من الأفضل أن تحدد المعلومات التي تريد الوصول إليها حتى لا يذهب وقتك هباءً أو تجمع قدرًا كبيرا من المعلومات التي لا طائل منها.
خلال تقييم كل خيار هناك أسئلة عديدة يمكنك البحث عن إجابة عنها، منها على سبيل المثال:
•لماذا تريد اتخاذ القرار؟
•هل الأمر بالفعل مهم وسيساعدك على تحقيق أهدافك؟
•ما المطلوب منك إذا اتخذت القرار؟
•هل أنت مستعد للالتزام بالقرار؟
•هل أنت مستعد للخروج من منطقة الراحة الخاصة بك؟
•هل هذا الخيار واقعي ويمكن تحقيقه في ظل الظروف المتوفرة حاليًا؟
•هل سيؤثر القرار في مستقبلك فقط أم مستقبل من حولك مثل أسرتك أو الأشخاص المسؤولين منك؟
•هل يناسب الخيار قدراتك وإمكانياتك؟ وهل تمتلك المهارات والموارد الكافية لتنفيذه؟
•ما هي مهاراتك التي ستعينك على القيام بالمطلوب منك؟
•ما هي مثالبك التي قد تشكل عائقًا أمام تحقيق ما تصبو إليه؟ وهل هناك سبيل لتطويرها أو التخلص منها؟
•هل يلبي هذا الخيار طموحاتك؟
•ما الفوائد التي ستعود عليك لو سارت الأمور كما خططت لها؟
•ما الذي قد تخسره إذا لم تسر الأمور كما خططت لها؟
•ما أقل ما يمكنك قبول تحقيقه إذا لم تصل إلى النتائج التي تصبو إليها؟
•ما هي المعوقات التي يحتمل أن تواجهها وكيف يمكنك أن تستعد لها وتتعامل معها؟
•ما الذي يمكن أن تخسره إذا تجنبت اتخاذ القرار؟
خامسًا: الحياة مملوءة بعدم اليقين وبالخطر وباحتمالات الندم، فإن انتظرت قرارًا يحميك من ذلك فلن يأتي هذا القرار، إنك تخشى ألا يؤدي قرارك لتحقيق النتائج المأمولة في المستقبل، لظروف خارجة عن سيطرتك أو لضعف ثقتك في قدراتك بسبب إخفاقك في السابق.
كيف يمكنك أن تتعامل مع هذا الأمر؟ الحل يكمن في تغيير طريقة تفكيرك والنظر للأمور بطريقة مختلفة. عليك أن تعمل وأنت تتوقع النجاح ولا تفكر في الفشل. إذا نجحت في ذلك ستتفاجأ من تأثيره في قدرتك على اتخاذ القرارات!
إن الرغبة في التحكم بالمستقبل والتفكير الدائم فيما حدث في الماضي يبقيانك محاصرًا داخل دائرة التفكير المفرط.
اتخذ قرارك وابذل قصارى جهدك لتحقيق ما تصبو إليه، ولكن اعلم أن ما خططت له قد يتأثر بأمور خارجة عن سيطرتك. لا يمكنك التحكم فيما سيحدث مستقبلًا أو حتى التنبؤ به. فمثلًا: هل كان أحد يتوقع وباء كورونا وتأثيره على كل جوانب حياتنا؟
أما بالنسبة لما حدث في الماضي، فالتفكير الدائم فيه أيضًا سيفقدك التركيز ويستنفذ طاقتك، وبالطبع لن يمكنك تغييره.
الخلاصة:
سيتحتم عليك في كثير من الأحيان اتخاذ قرارات دون أن تكون على ثقة كاملة من تحقيق النتائج المرجوة. عليك -عوضًا عن ذلك- التركيز على ما تفعله الآن والعمل على بلوغ غايتك، وأنت مؤمن بقدرتك على الوصول له وتجاوز أي تحدٍ قد تواجهه إذا لم تسر الأمور كما كنت تأمل. اعتبر كل قرار تتخذه فرصة للتعلم والنمو والمضي قدمًا. فحتى لو لم تنجح في الوصول لغايتك، ستكتسب خبرات تمكنك من تحقيق غايات أكبر منه في المستقبل.
طور هذه المهارات لتصبح صانع قرار أفضل:
البحثالتخطيط
حل المشكلاتإدارة الوقت
التفكير التحليليالتواصل
الذكاء العاطفيالتفكير الإبداعي
التفكير النقدي
ختامًا:
1- تجاهل محاولات النفس فإنها ترجع لنفس عملية التفكير في الخيارات مرة أخرى، وليقل لنفسه هذه الخطوة انتهت.
2- التسخيف والتقليل من قيمة المحاورات الذاتية التي تقلقك من الاختيار الذي أوصلك لذلك، لأن كل خياراتك ستزيد من قلقك والتفكير بخصوصها.
3- وعلى المدى البعيد عود نفسك على القرارات الصغيرة الكثيرة والمحسوبة والمعالجة بشكل سريع دون الالتفات للعواقب.
والله أعلم