الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

كيف أوفق بين حلِّ الزواج من الكتابية وبين عقيدة الولاء والبراء ؟

السؤال

دار نقاش بيني وبين أخي حول مودة أهل الكتاب وقلت له : إنه لا يجوز ذلك ، ولا يجوز اتخاذهم أصدقاء أو مجاملتهم في أعيادهم ، وحتى ألا نبدأهم بالسلام ، وما إلى ذلك من صور المودة ، فاحتج عليَّ بقوله : إن الله أباح لنا الزواج منهم وقد جعل الله بين الأزواج مودة ورحمة . أرجو من فضيلتكم جواباً مفصَّلاً شافياً في التوفيق بين عقيدة الولاء والبراء وبين مودة الزوجة الكتابية ، وما هي الشروط الشرعية للزواج من الكتابية ؟ .

الجواب

الحمد لله.

أولاً:

سبق بيان الشروط الواجب توفرها في الكتابية حتى يحل نكاحها ، في جواب السؤال رقم : ( 95572 ) ، ورقم : ( 2527 ).

ثانياً:

المحبة من حيث الإجمال نوعان : محبة دينية ، ومحبة جبليَّة طبيعية ، والمحبة الدينية منها ما هو واجب ومنها ما هو محرَّم ومنها ما هو شرك - وتجد تفصيل ذلك في جواب السؤال رقم : ( 276 ) - .

وأما المحبة الطبيعية – أو الجبليَّة - : فهي التي يُفطَر عليها الإنسان كمحبة الشراب البارد ومحبة المال ، ويدخل فيها محبة الوالدين والأولاد والقرابة ، وليس فيها أجر من حيث الأصل ، لكن قد يأثم إن غلا في حبِّه على حساب دينه ومخالفة شرع ربِّه ، كأن يصير " عبداً " للدينار ، وكأن يقدِّم طاعة والده على طاعة ربِّه ، وما يشبه ذلك .

قال ابن القيم – رحمه الله - :

" وثبت عنه في الصحيح أنه قال ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

فذكر في هذا الحديث أنواع المحبة الثلاثة : فإنَّ المحبة إما محبة إجلال وتعظيم كمحبة الوالد ، وإما محبة تحنن وود ولطف كمحبة الولد ، وإما محبة لأجل الإحسان وصفات الكمال كمحبة الناس بعضهم بعضاً ، ولا يؤمن العبد حتى يكون حبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم عنده أشد من هذه المحابِّ كلِّها " انتهى من " جلاء الأفهام " ( 1 / 391 ، 392 ) .

ومن المحبة الطبيعية تلك التي تكون بين الزوجين ، وهذا يزيل الإشكال الوارد في سؤال الأخ الفاضل ، فلا يلزم من وجود محبة طبيعية بين الزوجين أن يكون معها مودة ومحبة شرعية ، فيكون البغض لدينها ، والمحبة لكونها زوجة ، وهذان أمران يمكن الفصل بينهما ، فالنفس مجبولة على المحبة الطبيعية للآباء والأمهات والأبناء والزوجات ، ومع ذلك جاء النهي عن موادة الكفار المحاربين والمعادين للإسلام مهما كانت درجة قرابتهم ، قال تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة/ 22 ، ومن قواعد الشرع العظيمة عدم التكليف بغير مستطاع ، فأمكن إذاً الفصل بين المحبتين الطبيعية والشرعية ، وهو في مقدور الإنسان .

وقد ذكر الله تعالى بغض إبراهيم عليه السلام والمؤمنين معه لقومهم الكفار وفيهم أهلهم وأقاربهم وبينهم محبة جبليَّة طبيعية فقال تعالى ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) الممتحنة/ 4 .

وقد أثبت الله تعالى حبَّ النبي صلى الله عليه وسلم لعمِّه أبي طالب مع كفره ، وقد كانت تلك محبة طبيعية لقرابته .

قال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - :

"وأنزل الله في أبي طالب ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) ، ( إِنَّكَ ) أيها الرسول ، ( لَا تَهْدِي ) لا تملك هداية ( مَنْ أَحْبَبْتَ ) من أقاربك وعمِّك ، والمراد بالمحبة هنا : المحبة الطبيعية ، ليست المحبة الدينية ، فالمحبة الدينية لا تجوز للمشرك ولو كان أقرب الناس ( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) - المجادلة/ 22 - فالمودة الدينية لا تجوز ، أما الحب الطبيعي فهذا لا يدخل في الأمور الدينية ".

انتهى من " إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد " ( 1 / 356 ) .

وقد جمع ذلك كلَّه الشيخ عبد الرحمن البرَّاك حفظه الله في جواب مسدَّد عن هذه المسألة ، فقال :

والمحبة نوعان : محبة طبيعية كمحبة الإنسان لزوجته ، وولده ، وماله ، وهي المذكورة في قوله تعالى ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم/ 21 ، ومحبة دينية ، كمحبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ، ورسوله من الأعمال ، والأقوال ، والأشخاص .

قال تعالى ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) المائدة/ 54 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد ... ) الحديث .

ولا تلازم بين المحبتين ، بمعنى : أن المحبة الطبيعية قد تكون مع بغض ديني ، كمحبة الوالديْن المشركيْن فإنه يجب بغضهما في الله ، ولا ينافي ذلك محبتهما بمقتضى الطبيعة ؛ فإن الإنسان مجبول على حب والديه ، وقريبه ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب عمه لقرابته مع كفره قال الله تعالى ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء ) القصص/ 56 .

ومن هذا الجنس : محبة الزوجة الكتابية فإنه يجب بغضها لكفرها بغضاً دينيّاً ، ولا يمنع ذلك من محبتها المحبة التي تكون بين الرجل وزوجه ، فتكون محبوبة من وجه ، ومبغوضة من وجه ، وهذا كثير ، فقد تجتمع الكراهة الطبيعية مع المحبة الدينية كما في الجهاد فإنه مكروه بمقتضى الطبع ، ومحبوب لأمر الله به ، ولما يفضي إليه من العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) البقرة/ 216 .

ومن هذا النوع : محبة المسلم لأخيه المسلم الذي ظلمه فإنه يحبه في الله ، ويبغضه لظلمه له ؛ بل قد تجتمع المحبة الطبيعية ، والكراهة الطبيعية كما في الدواء المر : يكرهه المريض لمرارته ، ويتناوله لما يرجو فيه من منفعة .

وكذلك تجتمع المحبة الدينية مع البغض الديني كما في المسلم الفاسق فإنه يحب لما معه من الإيمان ، ويبغض لما فيه من المعصية .

والعاقل من حكّم في حبه ، وبغضه الشرع ، والعقل المتجرد عن الهوى ، والله أعلم .

انتهى

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب