السبت 8 جمادى الأولى 1446 - 9 نوفمبر 2024
العربية

هل الواجب تقليد علماء البلد أم يجزئ تقليد أي عالم ؟

222908

تاريخ النشر : 16-12-2014

المشاهدات : 22897

السؤال


كنتم قد ذكرتم في إحدى الفتاوى أنه على العامي أن يقلد علماء بلده ، ونقلتم قولا للشيخ محمد بن عثيمين يؤيد هذا القول ، وسؤالي هو : أنا مصري ، وأقيم غالب السنة في السعودية ، فهل بناء على هذا القول لا يجوز لي تقليد إلا العلماء المصريين ؟ وهل يجوز لي تقليد علماء غير مصريين مثل الشيخ محمد بن عثيمين ؟ مع العلم أن أقوال العلماء في البلد الواحد تختلف كثيرا .

الجواب

الحمد لله.

من الجيد أن يقرأ السائل في موقعنا شيئا من العلم والفتوى ، فيطلب تركيز البحث أكثر في إحدى الجزئيات والفروع ، ففي ذلك مزيد دقة وتحرير ، ومزيد بيان وتوضيح للإخوة القراء .

ثم اعلم أننا لم نقصد أبدًا في الفتوى رقم : (215535) ، (219722) إيجاب تقليد علماء البلد الذي تقيم فيه مطلقا ، وتحريم تقليد غيرهم من العلماء ، فهذا لم يرد في كلامنا السابق ، ولم نقف على من يقول به من أهل العلم ، ولا نراه متجها من حيث الأدلة . وإنما قصدنا إلى القول بأن المسائل الفقهية على نوعين:

النوع الأول:

مسائل تكتسب صفة محلية ، ولها علاقة بقضايا داخلية ، ولا تخرج عن سياقها الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي الذي وردت فيه ، كمثل الحديث عن حكم المشاركة في المجالس النيابية في بلد معين ، أو حكم الاقتتال الدائر في بلد آخر ، أو إعلان دخول رمضان والعيد ، أو حكم الحجاب وغطاء الوجه ، أو حكم قيادة النساء للسيارات ؛ حيث ارتبطت هذه المسألة بظروف مواجهة الغزو الثقافي والفكري ...

ففي هذه المسائل ونحوها نقرر أن الذي ينبغي على السائل أن يكون سؤاله ، وتقليده لعلماء البلد ، لسبب واضح شرعي ومعقول ، وهو أن علماء البلد أقدر على فهم الظروف المحيطة بالمسألة ، وأعرف بسياقها ، وأدرى بعلاقاتها المحلية ، وأقدر على فهم جميع المعطيات المرتبطة بها ، ولذلك غالبا ما يكون عالم البلد أدرى بها وأفقه .

وهذا أمر مجرب ومشاهد في جميع القطاعات ، فالسياسي أدرى بشؤون بلده ، بحكم اطلاعه اليومي على مجريات الأمور فيها ، وكذلك التاجر في المدينة أعرف بمداخل التجارة وخفاياها ، بخلاف الغر الطارئ عليها من الخارج ، وكذلك المفكرون والمثقفون يبحثون عن المختصين في شؤون بلادهم .

ولهذا كانت الجامعات ومراكز الدراسات العالمية عبر التاريخ المعاصر حريصة كل الحرص على تخصيص الباحثين الذين يركزون بحثهم في شؤون بعض البلاد ، كي تكتمل لديهم الصورة عن ذلك البلد بشكل أوضح وأجلى ، فيتخذون القرارات الأنسب في التعامل مع القضايا المتعلقة بذلك البلد محل البحث والدراسة .

ومن قبل ذلك كله كان المحدثون يقولون : الشيخ أعرف ببلديِّه ، وأعلم بمرويات بلده ، وكان كثير من الرواة إذا حدث عن شيوخ من غير أهل بلده ، يكثر منه الوهم والغلط ؛ لذلك قال حماد بن زيد رحمه الله : " بلديُّ الرجل ، أعرف بالرجل " رواه الخطيب في " الكفاية " (ص175).

أفلا يكون في ذلك مقنع أو حجة للحث على تقليد علماء البلد ، الذين هم أعلم بظرفهم من غيرهم !!

ومن هذا القسم أيضا تلك المسائل التي استقر العمل بها في أحد البلدان بمذهب إمام معين ، فالأولى بالناس مراعاة ذلك المذهب المستقر ، ما أمكن ذلك ، لمنع أسباب الاضطراب والتنازع بين الناس .

فمثلا : ليس من الحكمة أن أفتي الناس بتقليد مذهب أبي حنيفة في بلاد المغرب التي يشتهر فيها المذهب المالكي الذي نشأ الناس عليه ، وتعلموا من فقهه وأحكامه ، فإذا ما قلد العامي هناك مذهبا آخر غير المشتهر ، فإنه غالبا ما يؤدي إلى إحداث النزاع بينه وبين مجتمعه ومحيطه ، خاصة في القضايا التي تتعلق بالحقوق والمعاملات ، كالزواج والطلاق والبيوع وغيرها .

ففي جميع ما سبق نقول : الأولى تقليد علماء البلد ، ولا ننكر وجود الاستثناء في بعض الأحيان.

النوع الثاني:

المسائل الفقهية المجردة من محيط مكاني أو زماني ، والنوازل العالمية التي لا تختص ببلد دون آخر ، وإنما هي محل بحث وسؤال من قبل الجميع ، ولا ترتبط بها أحداث تؤثر في الحكم فيها ، كما أنها ليس لها معطيات خاصة تقتضي جوابا خاصا في حكمها .

كمثل بيان وجوب الصلاة والصيام وأركان الإسلام ، وبيان أحكام الربا والبيوع المنهي عنها ، وتقرير أحكام التقنيات الطبية الحديثة مثلا ، أو التكييف الفقهي لما يسمى الصكوك الإسلامية ، ونحو ذلك من القضايا النظرية العامة ، دون التنزيلية الخاصة .

وهذا النوع من المسائل هو الأكثر ، خاصة في عصرنا عصر " القرية الصغيرة " كما يقولون إن العالم كله آل إليه .

ولهذا فلا حرج على المقلد فيها أن يأخذ بقول الأعلم ، والأوثق في نفسه ، ولو كان من غير أهل بلده ، ويجوز له تقليد من يثق في علمه وديانته ، ولو لم يكن يحمل " جنسيته "، بل هذا هو الذي ينبغي في شأنه .

فمواقع الإفتاء عبر الإنترنت وبرامج الفتوى عبر الفضائيات كثيرة والحمد لله ، ولو قلنا بعدم جواز تقليد العالم إلا من أهل بلدك ، لحرم الناس هذا الخير العميم ، ولخالفنا منطق الإسلام الذي هو رسالة إلى العالم كافة ، والذي دعا أيضا إلى التوحد والتعاون على البر والتقوى .

فضلا عن أن الحجر في هذا النوع من المسائل يقيد مطلق قول الله سبحانه : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون ) النحل/43.

ولكن لا ننسى أن نستثني ما إذا كان تقليد غير علماء البلد سيؤدي إلى فتنة أو اضطراب وتشويش ، كما سبق التمثيل عليه في الفتوى بمذهب الحنفية مثلا في البلاد التي يشتهر بها المذهب المالكي ، ونحو ذلك من الأمثلة العملية التي يعلم العلماء مفسدتها على ساحة الفتوى الشرعية .

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال الآتي:

" بعض أهل العلم يقسم الناس من حيث التلقي إلى ثلاث مراتب : مرتبة الاجتهاد وهم العلماء ، ومرتبة الاتباع وهم طلبة العلم ، ومرتبة التقليد وهم العوام . فما رأي فضيلتكم في هذه القسمة ؟

فأجاب:

نعم . الناس يختلفون ، فمنهم من يصل إلى درجة الاجتهاد ، ومنهم دون ذلك ، ومنهم من يكون مجتهداً في مسألة من المسائل ، يحققها ويبحث فيها ، ويعرف الحق فيها دون غيره ، ومن الناس من لا يعرف شيئاً .

فالعامة مذهبهم مذهب علمائهم ، ولهذا لو قال لنا قائل : إنني أشرب الدخان ؛ لأن في البلاد الإسلامية الأخرى من يقول : إنه جائز ، وأنا لي حرية التقليد .

قلنا : لا يسوغ لك هذا ؛ لأن فرضك أنت هو التقليد ، وأحق من تقلد علماؤك ، ولو قلدت من كان خارج بلادك أدى ذلك إلى الفوضى في أمر ليس عليه دليل شرعي .

ولو قال : إنه سيحلق لحيته ؛ لأن من علماء الأمصار من قال : لا بأس بذلك ، نقول له : لا يمكن ، أنت فرضك التقليد ، لا تخالف علماءك .

ولو قال : أنا أريد أن أطوف على قبور الصالحين ؛ لأن من علماء الأمصار من قال : لا بأس بذلك ، أو قال : أريد أن أتوسل بهم إلى الله ، وما أشبه ذلك . قلنا : لا يمكن هذا ، فالعامي يجب عليه أن يقلد علماء بلده الذين يثق بهم .

وقد ذكر هذا شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله ، وقال : العامة لا يمكن أن يقلدوا علماء من خارج بلدهم ؛ لأن هذا يؤدي إلى الفوضى والنزاع .

ولو قال : أنا لا أتوضأ من لحم الإبل ؛ لأنه يوجد من علماء الأمصار من يقول : لا يجب الوضوء منه ، ولقلنا : لا يمكن ، يجب عليك أن تتوضأ لأن هذا مذهب علمائك وأنت مقلد لهم .

لكن العامي إذا استفتاك فأفته بما تراه أنه الراجح ، وإذا كان الراجح يخالف ما عليه الناس ؛ فأفته به سراً ، ما دامت المسألة اجتهادية وليس فيها نص ، وقل له : هذه فتوى بيني وبينك .

أما إذا كان الذي عليه الناس مخالفا للنص ؛ فأفته علناً ولا تُبالِ ، لكن لا تذكر له الخلاف ، فإن العوام يقولون : إذا أردت أن تحيِّر فخيِّر ، ولهذا دائماً نقول للطلبة : لا تبينوا الخلاف للعامة فتذبذبوهم ، ونقول : أيضاً لمن يعرف القراءات السبع : لا تقرأ بها أمام العامة ؛ لأنك لو قرأت بقراءة أخرى غير التي في المصحف عندهم ، شوش عليهم ذلك ". انتهى من " لقاء الباب المفتوح " (32/ 20، بترقيم الشاملة آليا).

ويقول الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله:

" إذا كان القول المعتمد في بلد من البلدان حمل الناس على القول الأحوط ، هذا إذا افترضنا أنهم على حد سواء ، مع أن المسألة في الحجاب ليست الأقوال مستوية ، النصوص صريحة في وجوب تغطية الوجه والكفين .

إذا فرضنا أن المسألة على حد سواء ، الأدلة متعادلة ، واعتُمد قول ، وأُفتي به في بلد من البلدان ، لا شك أن هذا القول هو المعتمد ، وأن الذي يثير غيره ، لا سيما إن كان القول الآخر تترتب عليه آثار عملية مؤثرة سلبية ، فإنه لا حظ له من النظر ، بل ينكر على من أفتى به " انتهى من " شرح الموطأ " (35/ 8، بترقيم الشاملة آليا).

والخلاصة:

أنك في المسائل من النوع الأول تقلد فيها العلماء في البلد الذي تقيم فيه ، فهذا هو المقصود بعلماء بلدك ، يعني : علماء البلد الذي تقيم فيه ، ولو كنت أجنبيا عنه ؛ وليس في البلد الذي جئت منه ، أو بلد المولد الأصلي .

أما المسائل من النوع الثاني : فتحرص فيها على تقليد الأعلم والأتقى والأورع ، ولو كان في غير بلد إقامتك .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب