الحمد لله.
القاعدة الشرعية تنص على أن الإنسان لا يذم إلا على فعله وذنبه هو، ولا يلام على ذنوب غيره، والمولود من الزنا: ليس هو من فعل الزنا، ولا أراده؛ فليس هذا من سعيه ولا من عمله، وإنما هو من عمل والديه، فهما المذمومان بذلك.
فولد الزنا: إن صلح حاله وعَمله: فهو محمود غير مذموم، وموعود بالجنة.
سُئِلت "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء":
" هل يدخل ابن الزنا الجنة إذا كان تقيا أو لا؛ لأنه وجد من مضغة ذميمة؟
الجواب: يدخل الجنة ابن الزنا إذا مات على الإسلام، ولا تأثير لكونه ابن زنا على ذلك؛ لأنه ليس من عمله إنما هو من عمل غيره، وقد قال تعالى: ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )، ولعموم قوله تعالى: ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ )، وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ )، وما جاء في معنى ذلك من الآيات، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يدخل الجنة ولد زنية، فلم يصح عنه صلى الله عليه وسلم...
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن قعود ، عبد الله بن غديان ، عبد الرزاق عفيفي ، عبد العزيز بن عبد الله بن باز " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى" (3/350).
وراجع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (332984).
ولا يُستشكل على هذه النصوص القاطعة بما ورد من ذم الكافر بلفظ: (زَنِيمٍ)، في قوله تعالى:
( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) القلم /10 – 13.
فـ: (زَنِيمٍ)، في اللغة يشتهر استعمالها، بمعنى من يدعي الانتساب إلى قوم وهو ليس منهم.
كما جاء في "مقاييس اللغة" (3/29):
" (زَنُمَ) أصل يدلّ على تعليق شيء بشيء. من ذلك الزَّنِيم، وهو الدّعِيّ، وكذلك المُزَنَّم ، وشبه بزَنَمَتي العنز، وهما اللتان تتعلقان من أذنها. والزَّنَمة: اللحمة المتدلية في الحلق " انتهى.
وقد فسرت الآية في بعض الأقوال بهذا المعنى أي : الدعي في النسب، الذي ينتسب إلى قوم وهو ليس منهم، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنه، وعكرمة، وابن المسيب، كما في "تفسير الطبري" (23 / 164 – 165)، وهذا القول الأول المشهور في الآية.
والقول الثاني:
أنه كان لهذا الرجل زَنَمَةٌ، وهي اللّحمة الْمتدلّية فِي العنق - كما عند الماعز زنمتان معلقتان في الحلق قرب الأذن - فكان يعرف بها.
روى البخاري: (4917) عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) قَالَ: ( رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنَمَةٌ مِثْلُ زَنَمَةِ الشَّاةِ ).
وتكون هذه العلامة قد ذكرت على سبيل التعريف به، وأنه هو المقصود بهذه الآيات، لا غيره.
روى الطبري (23/165) بإسناد رواته ثقات، قال:
" وقال آخرون: هو الذى له زنمة كزنمة الشاة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال في الزنيم، قال: " نُعِتَ، فلم يُعْرَف، حتى قيل: ( زَنِيمٍ ). قال وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها ".
وروى في (23/166)، من طريق آخر: عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ). قال: " نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ). قال: فلم نعرفه حتى نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: ( بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ). قال: فعرفناه؛ له زنمة كزنمة الشاة ".
وقال الطبري رحمه الله تعالى:
" حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدثنا ابنُ إدريسَ، عن أصحابِ التفسيرِ، قالوا: هو الذي يكونُ له زَنَمةٌ كزنمةِ الشاةِ " انتهى من "تفسير الطبري" (23/166).
والقول الثالث:
قيل إن هذا الشخص كان معروفا مشهورا بالشر، كما تعرف وتشتهر الشاة بزنمتها.
روى الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (ص111)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 499)، عن إِسْرَائِيل، حثنا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فِي قَوْلِهِ عز وجل: ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ )، قَالَ: " الزَّنِيمُ: الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ، كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا ".
وقال الحاكم: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "، ووافقه الذهبي.
واختار هذا التفسير شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال رحمه الله تعالى:
" وقال في حق الكافر:
( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ).
أي له زَنَمة من الشر؛ أي: علامة يعرف بها " انتهى من "الجواب الصحيح" (6/486).
وعلى القول الأول بأنه الدعي في النسب، وهو: أن ينتسب الشخص لغير أبيه ويتخذه أبا؛ فهو لا يخالف هذا القول الثالث الأخير؛ فهو ليس مذموما بمجرد كونه مولودا من الزنا؛ وإنما ذمّ بدعواه الباطلة، وبقوله الزور، حيث نسب نفسه إلى من لا يحق الانتساب إليه، وهذا ضرب من الشر مذموم، قد نهى الله عنه.
قال الله تعالى: ( ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الأحزاب/5.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ) رواه البخاري (3508)، ومسلم (61).
وروى البخاري (6766)، ومسلم (63) عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ).
قال أبو حفص الفاكهاني رحمه الله تعالى:
" لا إشكال في تحريم الانتفاء من النسب المعلوم إلى نسب غيره، وأنه من الكبائر؛ لما يتعلق بذلك من المفاسد العظام؛ من اختلاط الأنساب، وتحريم المحللات، وتحليل المحرمات من الموطوءات، واختلاف أحكام المواريث، وغير ذلك مما يدوم تحريمه، ويعم ضرره " انتهى من "رياض الأفهام" (5/83).
وأما المولود من الزنا إذا اتبع الطريقة الشرعية في الانتساب فهو غير مذموم، بل محفوظ الكرامة، وقد سبق بيانها في جواب السؤال رقم: (192131).
وقد يذم ولد الزنا في حالة ظهور شره، فيدل على أن منبته وبيئته قد أثرت في خلقه، فيذم من هذا الباب.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى معلقا على الآية السابقة:
" والأقوال في هذا كثيرة، وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو: المشهور بالشر، الذي يعرف به من بين الناس، وغالبا يكون دعيا وله زنا، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره " انتهى من "تفسير ابن كثير" (8/194).
فأما إن ظهر صلاح هذا المولود وتقاه وعفته، فهذا يظهر أنه لا أثر لمنبته في خلقه، فيمدح ولا يذم.
الخلاصة:
الثابت شرعا؛ أن الإنسان لا يحاسب ولا يلام إلا على ما اكتسبته نفسه، ومن ذلك ولد الزنا لا يلام على فعل والديه، فإن آمن وعمل صالحا فهو محفوظ الكرامة موعود بالجنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وولد الزنا " إن آمن وعمل صالحا دخل الجنة، وإلا جوزي بعمله كما يجازى غيره، والجزاء على الأعمال؛ لا على النسب.
وإنما يذم ولد الزنا لأنه مظنة أن يعمل عملا خبيثا، كما يقع كثيرا. كما تحمد الأنساب الفاضلة لأنها مظنة عمل الخير.
فأما إذا ظهر العمل: فالجزاء عليه، وأكرم الخلق عند الله أتقاهم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4 / 312).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (21818)، ورقم: (158276).
والله أعلم.
تعليق