الحمد لله.
الذي عليه أهل السنة والجماعة أن النار لا تفنى ولا تبيد ، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين ، أما الكفرة والملحدون فهم فيها خالدون .
قال الإمام ابن حزم في كتابه " مراتب الإجماع ": ( وأن النار حق ، وأنها دار عذاب لا تفنى ، ولا يفنى أهلها بلا نهاية ).
وقال في كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل " : ( اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها ، ولا للنار ولا لعذابها ، إلا الجهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوما من الروافض ، فأما جهم فقال : إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلهما ، وقال أبو الهذيل : إن الجنة والنار لا يفنيان ، ولا يفنى أهلهما ، إلا أن حركاتهم تفنى ، ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون.
وقالت تلك الطائفة من الروافض : إن أهل الجنة يخرجون من الجنة ، وكذلك أهل النار من النار إلى حيث شاء الله) [ الفصل 4/145 ط. دار الجيل].
وقال الطحاوي في عقيدته : ( والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان ولاتبيدان ).
وقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة على تقرير هذا المعتقد ، فمن ذلك قوله تعالى : ( ولهم عذاب مقيم ) المائدة/37 ، وقوله : ( لا يُفَتَّر عنهم وهم فيه مبلسون ) الزخرف/75 ، وقوله : ( خالدين فيها أبدا) البينة/8 ، وقوله : ( وما هم منها بمخرجين ) الحجر/48 ، وقوله : ( وما هم بخارجين من النار) البقرة/167 ، وقوله : ( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) الأعراف/40 ، وقوله : ( لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ) فاطر/36 .
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : ( يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت .
قال : ويقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت.
فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) ". رواه مسلم (5087) من حديث أبي سعيد الخدري.
فهذا النص الصحيح الصريح لا يدع مجالا للشك في هذه الحقيقة ، وهي أن أهل النار خالدون فيها لا يموتون ولا يخرجون ، كما أن أهل الجنة في الجنة خالدون .
قال شارح الطحاوية : ( وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله . وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار ، وأن هذا حكم مختص بهم ، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان ) انتهى من شرح الطحاوية ص 430 ط. المكتب الإسلامي.
وأما قوله تعالى عن أهل النار : ( لابثين فيها أحقابا لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ) النبأ/23-25 ، فالمراد كما قال القرطبي رحمه الله ( أي ما كثين في النارما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، فكلما مضى حُقُب جاء حُقُب ، والحقب بضمتين : الدهر ، والأحقاب : الدهور ، والحقبة ، بالكسر : السنة ، والجمع حِقب ... والحُقْب بالضم والسكون : ثمانون سنة ، وقيل أكثر من ذلك على ما يأتي ، والجمع : أحقاب . والمعنى في الآية : لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه ؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة ، وهو كما يقال : أيام الآخرة ، أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية ، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال : خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب ونحوه . وذكر الأحقاب لأن الحقُب كان أبعد شيء عندهم ، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها ، وهي كناية عن التأبيد ، أي يمكثون فيها أبدا . وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام لأن الأحقاب أهول في القلوب وأدل على الخلود ، والمعنى متقارب .
وهذا الخلود في حق المشركين ، ويمكن حمل الآية على العصاة الذي يخرجون من النار بعد أحقاب .
وقيل : الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب ، ولهذا قال ( لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ) . انتهى من تفسير القرطبي رحمه الله.
وأما قوله تعالى : ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) هود/106،107، فقد ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيرها أحد عشر قولا كلها تدل على خلود الكفار في النار وتأبيدهم فيها ، ومن هذه الأقوال : ( أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار ، وعلى هذا يكون قوله ( فأما الذين شقوا ) عاما في الكفرة والعصاة ، ويكون الاستثناء من ( خالدين ) ، وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحُممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون" ) . رواه البخاري (6896)
ومنها : ( أن "إلا" بمعنى " سوى " كما تقول في الكلام : ما معي رجل إلا زيد ، ولي عليك ألا درهم إلا الألف التي لي عليك. فالمعنى : ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود) وقد تركنا ذكر بقية الأوجه اختصارا فراجعها فإنه نافعة جدا.
وبهذا يعلم أن ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع من خلود النار وأهلها ، لم يعارضه نص صحيح صريح من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، ولا من آثار الصحابة والتابعين .
وبهذا يتم الجواب عن قولك : أم أن عذابهم يستمر لأحقاب الله يعلمها ، إن كان كذلك فما مصيرهم بعد ذلك ؟ ولم يرد ذكرٌ لذلك في القرآن أو السنة ؟
فيقال : بل ورد ما ذكرنا لك من النصوص ، وغيرها مما لم نذكره ، ما يقرر معتقد أهل السنة في هذه المسألة ، وكون النصوص لم تذكر شيئا عن مصيرهم بعد الأحقاب ، يدل على ما ذكرنا من أنها أحقاب لا تتناهى ، ولا تنقطع ، أعاذنا الله وإياك من ذلك.
وليس فيما ذكر تعارض مع عدل الله ورحمته ، بل هذا هو مقتضى عدله وحكمته ، كما قال سبحانه : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور. وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالح غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) فاطر/36،37 .
وقال جل وعلا : ( إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون. لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. وما ظلمناهم ولكن هم الظالمون . ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون . لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ) الزخرف/74-78.
وقال سبحانه : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين . مالكم كيف تحكمون) القلم/34،35
وقال : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون. وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) الجاثية/21،22
وقال : ( إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) يونس/4.
ومن تدبر هذه الآيات المباركات أيقن أن الله حكيم عليم رحيم لا يظلم الناس مثقال ذرة ، وما ربك بظلام للعبيد.
وهو سبحانه ( لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) الأنبياء/23
والله أعلم.
تعليق