الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

الحكمة في أفعال الله تعالى .

287367

تاريخ النشر : 09-04-2018

المشاهدات : 43464

السؤال

المرجو شرح هذه الجملة ؛ لأني أسمعها كثيرا من الدعاة والعلماء والجملة هي: " اللهم ألهمنا فهم الحكمة في أفعالك " ، ولكن ما أعلمه هو أن الحكمة من أفعاله يعلمها فقط هو جل وعلا .

ملخص الجواب

لا تخرج أفعال الله تعالى عن الحكمة ، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها .

الجواب

الحمد لله.

أولا :

هذه العبارة لا نعلمها محفوظة عن أحد من السلف أو أهل العلم ، وإنما يقولها بعض الوعاظ والخطباء .

ومن ابتغى الحكمة وطلب السلامة في أذكاره ودعائه وتضرعه إلى الله لزم المأثور.

قال القاضي عياض رحمه الله : " أذن الله في دعائه ، وعلَّم الدعاءَ في كتابه لخليقته، وعلَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الدعاءَ لأمَّته، واجتمعت فيه ثلاثةُ أشياء : العلمُ بالتوحيد ، والعلم باللغة ، والنصيحة للأمَّة ، فلا ينبغي لأحدٍ أن يعدلَ عن دعائه صلى الله عليه وسلم ، وقد احتال الشيطانُ للناس من هذا المقام ، فقيَّض لهم قومَ سوء يخترعون لهم أدعيةً يشتغلون بها عن الاقتداء بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " .

انتهى من "الفتوحات الربانية" لابن علان (1/17) .

وينظر جواب السؤال رقم : (153274).

ثانيا :

لا يخرج شيء من أفعال الله تعالى عن تمام الحكمة ، ولا يجوز خلو فعل من أفعاله عن الحكمة ، قال ابن القيم رحمه الله :

" الله سبحانه حكيم ، لا يفعل شيئا عبثا ، ولا لغير معنى ومصلحة .

وحكمته : هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل . كما هي ناشئة عن أسباب ، بها فعل .

وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا " انتهى من "شفاء العليل" (ص: 190) .

وقال أيضا :

" اللهُ سُبْحَانَهُ مَا أَعْطَى إِلَّا بِحِكْمَتِهِ، وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ، وَلَا أَضَلَّ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ.

وَإِذَا تَأَمَّلَ الْبَصِيرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ: رَآهُ عَيْنَ الْحِكْمَةِ، وَمَا عَمَرَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، إِلَّا بِحِكْمَتِهِ.

وقول أَهْلِ الْإِثْبَاتِ في تعريفها: إنَّهَا الْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ الْمَطْلُوبَةُ لَهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، الَّتِي أَمَرَ لِأَجْلِهَا، وَقَدَّرَ وَخَلَقَ لِأَجْلِهَا.

وَهِيَ [ أيضا ] : صِفَتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ ، كَسَائِرِ صِفَاتِهِ: مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحَيَاتِهِ وَكَلَامِهِ " انتهى مختصرا من "مدارج السالكين" (2/ 450) .

ثالثا :

ليس بالضرورة أن تصل عقول العباد إلى معرفة الحكمة في أفعال الله ، وشرعه وأمره، بل قد يبين الله تعالى لعباده بعض تلك الحكم ، وقد يستر عنهم بعضها ، محنة لهم ، واختبارا لعبوديتهم وتسليمهم لربهم.

ينظر جواب السؤال رقم : (146216) .

ولا شك أن معرفة الحكمة من الفعل ، أو الخلق ، أو الأمر : تزيد المرء إيمانا ، ولكن ليس شرطا في الإيمان أن نتعرف على تفاصيل حكمة الله تعالى في خلقه وأمره ، ونطلع عليها.  وإنما مدار أمر العبد التسليم أولا ، وقبل كل شيء ؛ فإن أدرك الحكمة ، فليحمد الله ، وإن لم يدركها رجع إلى التسليم لربه تعالى ، مع إيمانه أنه سبحانه حكيم عليم ، لا يخرج فعل من أفعاله عن الحكمة .

فإن الناس متفاوتون في عقولهم وفهومهم ودينهم ، والله يصطفي من عباده من يشاء ، ويمن على من يشاء بما شاء من فضله ، وقد قال تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) البقرة/ 269 .

قال ابن أبي العز رحمه الله :

" اعْلَمْ أَنَّ مَبْنَى الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ - عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَعَدَمِ الْأَسْئِلَةِ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالشَّرَائِعِ.

وَلِهَذَا لَمْ يَحْكِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيٍّ ، صَدَّقَتْ بِنَبِيِّهَا ، وَآمَنَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ، أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ فِيمَا أَمَرَهَا بِهِ وَنَهَاهَا عَنْهُ ، وَبَلَّغَهَا عَنْ رَبِّهَا .

وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِنَبِيِّهَا، بَلِ انْقَادَتْ وَسَلَّمَتْ وَأَذْعَنَتْ، وَمَا عَرَفَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ عَرَفَتْهُ، وَمَا خَفِيَ عَنْهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ فِي انْقِيَادِهَا وَتَسْلِيمِهَا عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَا جَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا، وَكَانَ رَسُولُهَا أَعْظَمَ عِنْدَهَا مِنْ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْإِنْجِيلِ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا .

وَلِهَذَا كَانَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ عُقُولًا وَمَعَارِفَ وَعُلُومًا - لَا تَسْأَلُ نَبِيَّهَا: لِمَ أَمَرَ اللَّهُ بِكَذَا؟ وَلِمَ نَهَى عَنْ كَذَا؟ وَلِمَ قَدَّرَ كَذَا؟ وَلِمَ فَعَلَ كَذَا؟ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِسْلَامِ، وَأَنَّ قَدَمَ الْإِسْلَامِ لَا تَثْبُتُ إِلَّا عَلَى دَرَجَةِ التَّسْلِيمِ.

فَأَوَّلُ مَرَاتِبِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ : التَّصْدِيقُ بِهِ، ثُمَّ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى امْتِثَالِهِ، ثُمَّ الْمُسَارَعَةُ إِلَيْهِ وَالْمُبَادَرَةُ بِهِ الْقَوَاطِعَ وَالْمَوَانِعَ، ثُمَّ بَذْلُ الْجُهْدِ وَالنُّصْحِ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ فِعْلُهُ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا، بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ - فَإِنْ ظَهَرَتْ لَهُ فَعَلَهُ وَإِلَّا عَطَّلَهُ، فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي الِانْقِيَادَ، وَيَقْدَحُ فِي الِامْتِثَالِ." انتهى من "شرح الطحاوية" (341) .

والحاصل :

أن من فهم الحكمة في البلاء والمرض صبر واحتسب وعلم أنه شيء قدره الله بحكمته وعلمه ، وأنه خير للمسلم في دينه ودنياه .

ومن فهم الحكمة في الغنى والفقر ، شكر إذا أغناه الله ، وصبر إذا قدر الله عليه الحاجة .

ومن فهم الحكمة في تشريع الجهاد ، بادر بالجهاد في سبيل الله بنفسه وماله ، لإعلاء كلمة الله ونشر دينه ، ومحاربة الكفر وأهله .

ومن فهم الحكمة في الصدقة وعلم أنه يكون بها نماء المال وزكاؤه ونفع صاحبه في الدنيا والآخرة وأنه ما نقص مال من صدقة بادر بالصدقة حتى يكون ما يخرجه في الله أحب إلى نفسه مما يمسكه .

ومن لم يعلم الحكمة :

بادر بالتسليم والرضا، وعلم أنه ربما أتي من قِبَل جهله ، وعدم علمه ، فيسيء الظن بنفسه ، ويحسن الظن بربه ، فما أسعد المسلم بدينه ، إن هو علم الحكمة زادته إيمانا وفقها ، وعلما وعملا ، وإن هو جهلها أحسن الظن بربه ، وأساء الظن بنفسه ، وما زاده عدم العلم بها إلا تسليما لربه ، ورضا بما قدره وشاءه وشرعه سبحانه ، قال تعالى : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة / 216.

قال ابن القيم رحمه الله: " العبد لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه ، ولو عرف أسبابها، فهو جاهل ظالم، وربه تعالى يريد مصلحته ، ويسوق إليه أسبابها .

ومن أعظم أسبابها: ما يكرهه العبد؛ فإن مصلحته فيما يكره ، أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب " انتهى من "مدارج السالكين" (2/ 205) .

وينظر السؤال رقم : (45529) .

ولكننا ننبه إلى أن إطلاق الدعاء بأن يلهمنا الله فهم الحكمة في أفعاله كلها غير صحيح ، فإن هناك ما قد يستر الله حكمته في خلقه أو تشريعه عنا ، وإذا طلبنا معرفة الحكمة ما قدرنا عليها ، وربما أدى بنا ذلك إلى نوع من التلبيس والخوض في القدر بما لا ينبغي، ويكون التسليم لله أسلم لدين العبد ، وخاصة إذا كان قاصر العلم والفهم ، فسؤال الله معرفتها قد يكون من جنس الاعتداء في الدعاء .

وخير للعبد أن يدعو ربه أن يعلمه ما ينفعه ؛ فلا خير في علم لا ينفع العبد في دينه ولا دنياه .

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ) رواه ابن حبان (82) وغيره ، وصححه الألباني .

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا) رواه ابن ماجه (925) وحسنه الألباني .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا، الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ) رواه الترمذي (3599) ، وقال الألباني : " صحيح دون قوله : (والحمد لله) " .

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم أيضا : "( اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي ، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي ، وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِهِ) رواه الحاكم (1931) وغيره ، وحسنه الألباني .

والله تعالى أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب