الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024
العربية

الحكمة من خلق الملائكة ، والفرق بين هداية التوفيق وهداية الإرشاد

146216

تاريخ النشر : 13-06-2010

المشاهدات : 83446

السؤال

ما الحكمة من خلق الملائكة ؟ هل خُلقوا لا لشيء سوى متعة الخلق أم للاختبار والتمحيص ؟. وهل عندما خلق الله إبليس كان يعرف نهايته ومستقبله في الأرض ؟ وهل لم يستطع الله خلق إبليس على الهدى الذي أراده له ؟.

الجواب

الحمد لله.


أولاً:
لا يتم إيمان المسلم حتى يثبت لربه تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال ، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك ، ومما ثبت لله تعالى من الأسماء " الحكيم " ، ومما ثبت له من الصفات " الحكمة " ، فلم يخلق الله تعالى خلقاً إلا لحكمة ، ولم يشرع شرعاً إلا لحكمة ، وليس بالضرورة أن تصل عقول العباد إلى تلك الحكم دائما ، بل قد يبين الله تعالى لعباده بعض تلك الحكم ، وقد يستر عنهم بعضهم ، محنة لهم ، واختبارا لعبودئتهم وتسليمهم لربهم .

ثانياً:
قدر الله تعالى أن يخلق الملائكة ، ولا شهوة لهم إلى المعصية ، بل همتهم مصروفة بالكلية إلى طاعة رب العالمين ؛ فليس لهم في الدنيا اختبار ولا ابتلاء ، ولا عليهم في الآخرة حساب ولا جزاء .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
فإن الله سبحانه خلق خلقَه أطواراً ، فخلق الملائكة عقولاً لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلاف ما يراد من مادة نورية لا تقتضي شيئاً من الآثار والطبائع المذمومة ، وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها ، وخلق الثقلين الجن والإنس وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة لآثارمختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها ، وهؤلاء هم أهل الامتحان والابتلاء ، وهم المعرضون للثواب والعقاب ، ولو شاء سبحانه لجعل خلقه على طبيعة خلق واحد ولم يفاوت بينهم ، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة ، وموجب الربوبية ، ومقتضى الإلهية .
" طريق الهجرتين " ( ص 203 ) .

ثالثاً:
الملائكة الكرام خلقٌ من خلق الله تعالى ، عبادٌ مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يُؤمرون ، يكلفهم ربهم تعالى بما يشاء ، وإذا علمتَ تلك الوظائف والأعمال التي يقوم بها أولئك الخلق الكرام فهي الحكمة من خلقهم ، ومجمل هذه الأعمال والوظائف ثلاثة :

الأولى : عبادة الله تعالى ، وتمجيده ، وتعظيمه ، وتسبيحه .
قال تعالى : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ) الأنبياء/ 20 ، وقال تعالى – على لسان الملائكة الكرام - : ( وَإنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ . وَإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ ) الصافات/ 165 ، 166 .
عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ ) .
رواه الترمذي ( 2312 ) وابن ماجه ( 4190 ) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترمذي " .
وانظر شرح الحديث في جواب السؤال رقم ( 131516 ) .

الثانية : القيام بأمر خلق الله تعالى وملكوته تعالى بإذن ربهم وتكليفه .
فمن الملائكة مكلفون بحمل العرش وعددهم ثمانية ، ومنهم مكلفون بتبليغ الوحي ، ومنهم خزنة الجنة ، ومنهم خزنة النار ، ومنهم ملائكة الأرزاق ، وهكذا في سلسلة أعمال جليلة كلفهم بها الرب سبحانه وتعالى .

الثالثة : القيام بأمر بني آدم بإذن ربهم وتكليفه .
فمن الملائكة من يحرس بني آدم ، ومنهم من يسجل أعمال بني آدم ، ومنهم مكلفون بقبض الأرواح ، ومنهم المكلف بسؤال الميت في قبره ، والمستغفر للمؤمنين ، وهكذا في سلسلة أعمال جليلة تتعلق بابن آدم .
وانظر جواب السؤال رقم ( 14610 ) ، ويمكن أن يراجع تفاصيل ما يتعلق بالملائكة في كتاب "عالم الملائكة الأبرار" للشيخ الدكتور عمر سليمان الأشقر ، حفظه الله ، وهو كتاب مهم جامع في بابه .

رابعاً:
وأما قولك " وهل عندما خلق الله إبليس كان يعرف نهايته ومستقبله في الأرض ؟ " ؛ فاعلم ـ أولاً ـ أنه لا يصح إسلام العبد إلا أن يؤمن أن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون ؟ وأن من تشكك في شيء من ذلك : فهو كافر بالله العظيم .
ألست تقرأ قول الله تعالى ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) سبأ/ 3 ، وقوله تعالى ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) الطلاق/ 12 ، وقوله ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) المجادلة/ 7 ، وقوله ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) الحديد/ 3 ؟! فأين أنت عن هذه الآيات ومئات مثلها ، ومئات من الأحاديث ؟! .

خامساً:
أما قولك " وهل لم يستطع الله خلق إبليس على الهدى الذي أراده له ؟ " : فهذا أيضاً منك عجيب ، فإن كنتَ مسلماً فكيف آمنتَ برب عاجز ؟ وكيف آمنت - إذاً - بربٍّ خلق الملائكة عباداً طائعين فكان ما أراد الله تعالى منهم ؟ .
وقد ذكرنا لك في أول الجواب كيف اختلف خلق إبليس وآدم عن خلق الملائكة ؛ بل هذا ـ أيها السائل ـ مما يرشدك إلى تمام قدرة الله جل جلاله ، وعظيم ملكه ؛ فقد خلق من خلقه من لا يعصيه طرفة عين ، بل هو طائع له أبدا ، وهم الملائكة ، وخلق من لا يطيع أمره أبدا ،بل هو عاص له ، كافر به ، معاند لأمره ؛ وهم الشياطين ؛ وخلق من جمع بين الوصفين : الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، وهم بنو آدم . والكل خلق الله ، لو شاء لجعلهم على ملة واحدة ، وخلقة واحدة ، ودين واحد ، لكن حكمته وقدرته اقتضت ذلك ، وهو المحمود على كل فعله ، وكل قوله ، وكل خلقه سبحانه : ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء/23 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ، وَلَهُ فِيمَا خَلَقَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ، وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ ، وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ ؛ وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ ؛ بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ ، وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (8/79) .

سادساً:
اعلم أن كل من ضلَّ عن سواء السبيل فقد جاءه الهدى ، لكنه هو الذي أباه واستكبر عن اتباعه ، فهداية الدلالة والإرشاد قد وصلتهم ، وأقام بها الله تعالى الحجة عليهم ، لكنهم أبوا الانقياد لها واتباعها ، فحصل منهم الضلال ، فعمت هدايته وبيانه للخلق ، وقامت عليهم حجيته سبحانه ، كما قال سبحانه : ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) الأنعام/149 .
قال ابن القيم رحمه الله :
" فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه ، وبيان ما ينفعهم ويضرهم ، وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه ، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ، فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك ، واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه ، ثم قرر تمام الحجة بقوله : ( فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) ؛ فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه ، وأنه لا رب غيره ، ولا إله سواه ؛ فكيف يعبدون معه إلها غيره ؟! فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم ، وأن الأمر كله لله ، وأن كل شيء ما خلا الله باطل ؛ فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد ، فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك ، فكانت حجة الله هي البالغة ، وحجتهم هي الداحضة وبالله التوفيق " انتهى .
"شفاء العليل" (35) .

ونوصيك أيها السائل بطلب العلم الشرعي ، ومعرفة ما ينفعك في دينك وقربك من ربك عزَّ وجل ، وابذل وقتك في حفظ القرآن وأكثر من النظر في أحاديث نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، واطلع على تراجم سلف هذه الأمة وعلمائها ، وسترى – بإذن الله – خيراً كثيراً ، فساعات العمر أنفس من أن نضيعها فيما لا نفع فيه ، والعمر محدود أن نفرط فيه فيما قد يضرنا يوم نلقى ربنا تعالى .
وأعظم ما نوصيك أن تكثر مع ذلك كله من ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار ، وأن تجتهد في طاعته ، فإن الشيطان وسواس خناس ، إذا ذكرت الله خنس ، وضعف عنك ، وإذا غفلت عن ذكره برز إليك ، وشغلك بالوساوس والخطرات .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب