الحمد لله.
أولاً:
القاعدة العامة عند العلماء أنَّ المحرمات لا يجوز بذل العِوَض فيها، فمن اشترى سلعةً محرَّمةً لا يجوز له قبضها ولا دفع ثمنها.
واذا قبض البائع الثمن وجب عليه رده لصاحبه إلا أن يكون قد استهلك السلعة أو انتفع بها فيتصدق بالثمن.
وإذا قبض المشتري السلعة وجب عليه إتلافها؛ لأنها عينٌ محرَّمة ليس فيها منفعة معتبرة شرعاً، ولا يردها لصاحبها.
هذا هو الأصل العام، وهو ينطبق على المحرمات البيِّن تحريمها، كالخمر والخنزير والميتة ونحوها.
"قال ابن حبيب: إذا باع مسلم من مسلم خمرًا، فما كانت الخمر قائمة بيد بائع أو مبتاع، فلتكسر على البائع، ويرد الثمن إن قبضه على المبتاع، فإن فاتت فقد فات الفسخ، وأُخذ الثمن يتصدق به سواء قبضه البائع أو لم يقبضه، ويعاقبان" انتهى من "النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات" (6/179).
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن رجل اشترى خمرًا ولم يدفع ثمنه، ثم تاب فماذا يعمل؟
فقال: "يؤخذ منه ويوضع في بيت المال" انتهى من "الكنز الثمين" (ص: 118).
ثانياً:
أما الصورة محل السؤال، فالأقرب والأسلم تسديد ثمن الدخان الذي تم شراؤه بالدين، لعدد من الاعتبارات، وهي:
1-أن الدخان وإن كانت الفتوى على تحريمه، إلا أن فيه خلافاً مشهوراً بين أهل العلم بين قائلٍ بالكراهة والتحريم، ولم يتقرر تحريمه في نفوس عامة الناس كتقرر تحريم بيع الخمور والمخدرات ونحوها، ولذا يتسامحون في بيعه والتجارة به وشربه، إما تقليداً لقول من يبيح ذلك، أو لشبهةٍ، أو عدم قناعةٍ بتحقُّق مناط التحريم وهو وجود الضرر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وَمَا اكْتَسَبَهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ ، وَكَانَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ وَمُعْتَقِدًا جَوَازَهُ لِاجْتِهَادٍ ، أَوْ تَقْلِيدٍ ، أَوْ تَشَبُّهٍ بِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَوْ لِأَنَّهُ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي كَسَبُوهَا وَقَبَضُوهَا: لَيْسَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الَّذِي أَفْتَاهُمْ أَخْطَأَ...
فَالْمُسْلِمُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي يَعْتَقِدُ جَوَازَ مَا فَعَلَهُ، مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ وَالْمُعَامَلَات،ِ الَّتِي يُفْتِي فِيهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إذَا أُقْبِضَ بِهَا أَمْوَالٌ، وَتَبَيَّنَ لِأَصْحَابِهَا فِيمَا بَعْدُ أَنْ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ: لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ مَا قَبَضُوهُ بِالتَّأْوِيلِ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/443).
2-أن عدم تسديد الثمن لن يكون مفهوماً ومقبولا من قبل الطرف الثاني، وسيُعطي انطبعاً سلبياً حول الشخص التائب، وأنه في أوائل توبته شرع بهضم حقوق العباد.
3-قد يُظَنُّ أن هذه التوبة حيلةٌ للتهرب من سداد ثمن الدخان الذي أخذه.
4-أنَّ العلماء لا يجيزون دفع الثمن عوضاً عن المحرم، ولا يجيزون أيضاً للشخص أخذه لنفسه، كي لا يُجمع له بين العوضين (السلعة وثمنها) ، وإنما يلزمونه التصدق به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "ومن أخذ عوضاً عن عين محرمة أو نفع استوفاه مثل أجرة حمال الخمر وأجرة صانع الصليب وأجرة البغي ونحو ذلك: فليتصدق بها، وليتب من ذلك العمل المحرم، وتكون صدقته بالعوض كفارة لما فعله؛ فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه عوض خبيث ولا يعاد إلى صاحبه لأنه قد استوفى العوض ويتصدق به، كما نص على ذلك من نص من العلماء، كما نص عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر، ونص عليه أصحاب مالك وغيرهم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (22/142).
لكل ما سبق من اعتبارات، ودفعاً للتهمة عن النفس، فإننا نرى أن الأسلم لك: أن تُسدد له الثمن كاملاً، وتنوي عند سداده أنه صدقةٌ منك، والصدقة تجوز على الفقير والغني.
قال النووي رحمه الله: "تحل صدقة التطوع للأغنياء بلا خلاف" انتهى من "المجموع" (6/236).
ولو بينت ذلك للابن الوارث، الذي تعطيه ما عليك من الدين: فهو أحسن، ولعل الله أن يجعل فيه خيرا له ، ويفتح عليه باب التوبة من بيع الدخان ونحوه.
وإن أمنت من مطالبتهم لك ، أو سوء الظن بك ، فتصدقت بما كان عليك من ثمن هذا الدخان: فلا بأس بذلك أيضا ، إن شاء الله .
ونسال الله تعالى أن يتقبل توبتك.
والله أعلم
تعليق